قال أحد كتاب دورية فورين أفيرز عقب الانتخابات الأمريكية التي شهدت موجة حمراء غير مسبوقة "على الرغم من أننا لا نعرف تركيبة النظام الجديد، إلا أننا نعلم أن ترامب سيكون على رأسه". تلك بالتحديد هي معضلة التعامل مع عودة رئيس سابق مثير للجدل يقود حركة تغيير سياسي واجتماعي تسيطر على أحد الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة وتميزت فترة رئاسته الأولى بالصخب ومحاولة تغيير السياسات العالمية وانتهت بكارثة اقتحام مبنى الكابيتول من أنصاره، والتي كادت تعصف بالديمقراطية الأمريكية، ولكنه عاد رغم كل ما سبق لسدة الحكم لفترة ثانية وأخيرة، ولكنها فترة رئاسية ينتظر أن تشهد تغيرات عميقة في النظام السياسي الأمريكي في ظل تفويض شعبي عميق وهو ما يرشح علاقة الولايات المتحدة بالعالم ودورها في النظام الدولي لتغيير كبير ومؤثر.
إعادة تعريف "عزلة ترامب"
هناك تصور تقليدي سائد يقول إن الحزب الجمهوري منقسم إلى معسكرين الأول هو جناح الريجانية المتمسك بالأفكار القديمة التي تؤمن بدور أمريكي قيادي على المسرح الدولي، وهناك تيار يتزعمه ترامب اليوم، وهو تيار MAGA المتبني لأفكار العزلة Isolationism المتشكك في الدور العالمي للولايات المتحدة، والذي يتمسك بالانكفاء على الذات وتجنب الاستنزاف في الأزمات والصراعات العالمية. هناك من يجادل أن تلك التصورات عن المعسكرين غير دقيقة وربما خاطئة تمامًا. ويجادل بعض الخبراء أن العكس صحيح وأن تيار MAGA لا يميل إلى العزلة ولكنه يؤيد الانخراط في الشئون الدولية وربما أكثر من الجمهوريين التقليديين. حسب دراسة لمعهد رونالد ريجان في يونيو الماضي، اعتبر ثلثا المستطلع آراؤهم من المنتمينللحزب الجمهوري أنهم يؤيدون بقوة لأفكار حركة ماجا أو "نجعل أمريكا عظيمة من جديد"، بينما قال الثلث المتبقي أنهم لا ينتمون لتلك الحركة. فيما يتعلق بالموقف من القضايا الدولية، قال أنصار MAGA في الحزب الجمهوري إنهم يؤيدون موقف متشدد في القضايا العالمية، من أوكرانيا وتايوان وإسرائيل إلى الصين وحقوق الإنسان والديمقراطية، ولا يعلنون عن مواقف تميل إلى العزلة على الإطلاق. ويقول تيار MAGA إنه يؤيد منح الأولوية لقضايا الداخل الأمريكي على قضايا الشئون الدولية دون أن يعني ذلك الانسحاب من الساحة العالمية. وبلغت نسبة تأييد إسرائيل في حربها في غزة ٧٢ ٪ ونسبة ٧٥ ٪ يؤيدون إرسال شحنات الأسلحة لإسرائيل بينما كانت النسب أقل في التأييد بين المعسكر التقليدي غير المنتمي للحركة التي أسسها ترامب وغزت الحزب الجمهوري.
حركة ماغا الأمريكية
بشكل عام، تعتبر مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية (التقليدية) أن الرئيس المنتخب"انعزاليا"، لا تتوافق آراؤه تمامًا مع المثل والمصالح الأمريكية. ومن ثم، أشاع الأمميون Internationalists حالة من الشكوك من إعادة انتخاب ترامب خشية أن يقوم بتفكيك النظام الليبرالي الذي بنته الولايات المتحدة وحلفاؤها ودافعوا عنه منذ الحرب العالمية الثانية وهو التخوف الذي يلف القارة الأوروبية بعد انتخابه. يقول الكاتب Charles Kupchan " إن تصوير نهج "أمريكا أولاً" على أنه انحراف مظلم عن التجربة الأمريكية هو إساءة فهم لجذورها التاريخية والأيديولوجية العميقة، فضلاً عن جاذبيتها السياسية الكبيرة. إن فن الحكم الذي أطلقه ترامب هو استجابة لعالم متغير وللطلب من الناخبين الأمريكيين، وليس جهدا... لتفكيك العالم الذي صاغته الولايات المتحدة".
وتعطي تصريحات ترامب وبعض مستشاريه، سواء في الحملة الانتخابية أو بعد تحقيق الانتصار، ملمحا عن طبيعة السياسة الخارجية التي سينتهجها في الفترة الثانية؛ حيث يتحدث بوضوح عن بناء أمريكا في الداخل بما يضمن لها أن تكون قوية ولها هيبة أمام دول العالم المختلفة، خاصة في مواجهة القوي الصاعدة وفي مقدمتها الصين. وتشير مصادر الحزب الجمهوري إلى أن عدد المؤيدين لأفكار العزلة التقليدية في الإدارة القادمة قليلون ولن يؤثروا كثيرا في قرار السياسة الخارجية، فيما نجح ترامب في التخلص من مؤيدي التدخل الخارجي interventionists ومن بينهم نيك هيلي المرشحة السابقة في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري وأيضا تيار المحافظين الجدد الذين دفعوا أمريكا إلى حرب العراق، وهاجمهم ترامب في وقتها، حيث لم يظهر أي شخصية من التيار في المؤتمر العام للحزب الجمهوري الصيف الماضي.
لكن، هذه المخاوف لها ما يبررها، فقد صرح ترامب بالفعل أنه يريد التخلص من بعض العناصر الأساسية للنظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة وفرض توجهات جديدة مثل سياسات تهميش المؤسسات الدولية وفرض تعريفات جمركية وفرض الحمائية في مواجهة المنافسة الحادة مع الصين- وهو توجه لم يسبق حدوثه منذ الحرب العالمية الثانية.
لقد فشل الديمقراطيون في استيعاب جاذبية حركة MAGA في الشارع الأمريكي، خاصة دعوتها لإعادة بناء القوة الأمريكية والتي ظهر تأثيرها بوضوح في صناديق الاقتراع في الخامس من نوفمبر. يلخص ترامب منهجه مستعينا بعبارة شهيرة للرئيس دونالد ريجان عن كيفية تحقيق "السلام من خلال القوة"، فهو يتعهد بتوسيع الإنفاق العسكري والابتعاد بالبنتاجون عن أي إجراءات تقشف محتملة ويدعم بناء درع جديد للدفاع الصاروخي، وهي فكرة قديمة من أيام ريجان. في الخارج، يمكن القول إن أهم استخلاصات الخطاب السياسي، الذي يعود به ترامب للبيت الأبيض، أن أقرب حلفاء الولايات المتحدة، في القارة الأوروبية وشرق آسيا، يتعين علىهم تدبر أمرهم ومواجهة حقيقة أن القوى العظمى-الضامنة لأمنهم–لم يعد بمقدورهاتحمل تلك الأعباء في المدى الطويل، وأن علىهم وضع الخطط الخاصة بهم. وقد كان تصريح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، فور الإعلان عن فوز ترامب، عن ضرورة أن تعتمد أوروبا على نفسها كاشفا عن نية أوروبا اتخاذ نهجاً جديدا خاصة بعد أن أقرت بعض الدول الأوروبية خططا لزيادة انفاقها العسكري. وتلك معضلة كبيرة حيث تمارس الولايات المتحدة سطوتها في النظام الدولي من خلال بناء التحالفات وليس فك الارتباط مع الحلفاء. فيما سيستمر في الضغط على الصين، التي يعتبرها أولوية قصوى والتهديد الأكبر، سواء تجاريا أو من خلال تبني سياسة صناعية جديدة تعيد الإنتاج إلى الداخل الأمريكي من خلال حوافز ضريبية وتعريفات جمركية ستدفع الكثير من المصنعين إلى العودة للأراضي الأمريكية.
ترامب في مواجهة واقع عالمي جديد
يتولى ترامب السلطة في ٢٠ يناير المقبل في ظل أوضاع عالمية تختلف تماما عن العالم الذي تركه في يناير ٢٠٢١. فقد ترك السلطة في غمار انتشار وباء كورونا الذي ترك تأثيرا عميقا على الاقتصادين الأمريكي والعالمي. وفي عام ٢٠٢٢، اندلعت الحرب في أوكرانيا وبعدها وقعت الصين ودوسيا اتفاق الشراكة الإستراتيجية تحت عنوان عريض "شراكة بلا حدود". ووسعت إيران من نفوذها في المنطقة العربية من خلال الميلشيات الموالية. ثم الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة وفشل الولايات المتحدة في وقف العدوان الوحشي على المدنيين بعد مقتل أكثر من ٤٣ ألف فلسطيني ثم بدء نتانياهو في خطة التهجير. والتراشق الصاروخي بين إسرائيل وإيران ثم غزو جديد لجنوب لبنان وقصف وحشي للضاحية الجنوبية وموجة تهجير ضخمة من لبنان. ويظل السؤال في كل العواصم المعنية بالتطورات في الداخل الأمريكي: ما هو موقف ترامب من أحداث لم يختبرها في فترة رئاسته الأولى؟
حركة ماغا الأمريكية
الشرق الأوسط بين العزلة وإعادة الارتباط
الحرب في غزة: تطورات الأحداث في الشرق الأوسط على مدى ١٣ شهرًا لم تترك أحدا، تقريبا، يأسف لمغادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن والإدارة الديمقراطية الحالية التي التزمت سياسة منحازة لإسرائيل وتركت المواجهات العسكري تتصاعد دون أن تتدخل الولايات المتحدة بطرح جديد يخرج المنطقة من الانزلاق إلى حرب شاملة. إن فترة السبعين يوما التي تسبق تنصيب الرئيس الجديد تحمل ذكري غير طيبة لإسرائيل منذ فترة حكم باراك أوباما عندما وجهت الإدارة الأمريكية بالامتناع عن التصويت على قرار يدين التوسع في بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة في مجلس الأمن وهو ما يتحسب له بنيامين نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية قبل وصول صديقه المقرب إلى المكتب البيضاوي. تشير العلاقة بين الإدارة الحالية ونتانياهو إلى أن الأخير يميل إلى تجاهل الديمقراطيين على مدي الشهور التي أعقبت هجمات حماس في الأراضي الإسرائيلية، فمن غير المرجح أن يستجيب نتانياهو إلى أي مطالب من إدارة بايدن في الشهرين القادمين. أن الظروف التي يتولى فيها ترامب، الذي يصف نفسه بأنه الرئيس الأمريكي الأكثر دعماً لإسرائيل في التاريخ، تبدو مختلفة تماماً عن فترة حكمه الأولي. فقد أمر بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان وشرع في رعاية الاتفاقيات الإبراهيمية والتي انتهت بإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وسبع دول عربية. اليوم، إسرائيل تتمدد وتتوسع وتحارب في سبع جبهات من غزة والضفة الغربية ولبنان وإيران وسوريا إلى العراق واليمن. على مدي الحملة الانتخابية، هاجم ترامب الديمقراطيين بسبب ما سماه اصدار توجيهات إلى نتانياهو والتي أعتبرها تقيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وقدرتها على إلحاق الهزيمة الكاملة بحركة حماس. ويتوقع خبراء إسرائيليون أن تتغير طريقة تعامل ترامب مع نتانياهو في ظل الأوضاع التي يمكن أن تصل بالمنطقة إلى حرب شاملة وهو أخر ما يمكن أن يتورط فيه الرئيس المنتخب. فلو طبقنا المبادئ الأساسية التي يتبناها ترامب، والخاصة بعدم تعريض أرواح الجنود الأمريكيين للخطر في الخارج أو اهدار الموارد في حروب خارجية، فإن ذلك سيمثل ذلك عبئا على نتانياهو واحتياجه الشديد إلى استمرار الدعم العسكري الأمريكي. فقد يترك ترامب صديقه نتانياهو يحقق الأهداف المعلنة في المدي القصير ولكنه يمكن أن يضع قيودا على توفير الدعم العسكري في المدي الطويل تأكيدا على رفضه السقوط في مصيدة الشرق الأوسط.
الحرب علي غزة
في تقرير لـBBC، قال مايكل أورن، سفير إسرائيل السابق لدي واشنطن، أن ترامب في الفترة الثانية يختلف عن ترامب الفترة الأولي وينبغي فهم من هو دونالد ترامب، وما الذي يعتقد فيه. ويضيف أن ترامب "لا يحب الحروب" ويري أنها مكلفة، ومن ثم طلب انهاء الحرب في غزة بسرعة. كما أنه ليس من الراضين عن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة ويعارض رغبات بعض القيادات الإسرائيلية لضم أجزاء منها. وفي حالات الصدام بين رغبات بايدن ورغبات الائتلاف الحاكم التزم نتانياهو بشروط الائتلاف الذي يدعم بقاءه في السلطة لكن في حالة ترامب سيكون الأمر مختلفًا. في المقابل، يشكك ستيفن كوك، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، في حدوث تغيير حقيقي للأوضاع في الشرق الأوسط ويقول في مقال بمجلة "فورين بوليسي" أن ترامب لا يتفق مع الجدول الزمني لنتانياهو ولكنه لن يمارس ضغوطا علىه وسيمنح إسرائيل فسحة من الوقت.
لا توجد خطة لدي ترامب حول كيفية التعامل مع الموقف الحالي في غزة، لكن تعبير "نهاية الحرب" الذي يستخدمه ترامب يعني، من وجهة نظره، أن تحقق إسرائيل نصرا كاملا قبل الحديث عن وقف إطلاق النار حتي لا تعود التنظيمات المسلحة المدعومة من إيران إلى تهديد إسرائيل من جديد. وهو موقف أكثر صراحة من الدبلوماسية غير الفعالة والأساليب المراوغة التي يقوم بها الديمقراطيون على مدي شهور طويلة. وفقا لمصادر مقربة من حملة ترامب، فإن الرئيس المنتخب لا يريد العودة إلى ما يسمي Low-Grade Conflict مشيرة إلى التفاوض مع حماس عام ٢٠١٤ الذي قاد يحيي السنوار إلى البحث عن كيفية التفوق على القبة الحديدية وتنفيذ عمليات منخفضة المستوي حتي وقعت هجمات ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. وبعد اغتيال السنوار في أكتوبر الماضي، يسيطر على مزاج نتانياهو والطبقة الحاكمة تحقيق الانتصار الكامل والاستسلام التام من حماس وتسليم الأسلحة واطلاق سراح الأسرى.
الإشكالية التي يتعين على صانع القرار في المنطقة العربية التعامل معها تتمثل في تلاشي فرص ممارسة الولايات المتحدة لضغوط "متقطعة" على إسرائيل فيما يخص حل الدولتين. كما أن هناك مسئولين في الإدارة الجديدة سيدعمون مشروع "إسرائيل الكبرى"، بينما سيضغط آخرون من أجل إنجاز التطبيع بين السعودية وإسرائيل في إطار ما يراه فريق بالمنجز الأكبر في الفترة الأولى لحكم ترامب - الاتفاقيات الإبراهيمية.
إيران: كل التقديرات تشير إلى سياسة جديدة في تعامل الإدارة القادمة مع طهران؛ حيث تشير التصريحات الأخيرة لمستشاري حملة ترامب إلى أن التركيز سينصب على تشديد العقوبات على إيران وتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. وقد جاءت التصريحات المبدئية من المسئولين الإيرانيين في صيغ متحفظة ومترقبة لما بعد انتخاب ترامب الذي أصدر الأمر بتصفية قاسم سليماني قائد الحرس الثوري. وتشكل عودة سياسة Maximum Pressure ، التي تبناها ترامب في فترته الأولي، أولوية في التعامل مع طهران ولكن هناك محاذير في مضي ترامب قدما في التنفيذ الشامل لعقوبات كاسحة ضد طهران أو توجيه ضربة عسكرية لها. بشكل محدد، تظل مسألة أسعار النفط مؤثرة في القرار الأمريكي حيث وعد ترامب ناخبيه بأسعار رخيصة للجازولين والبنزين وأي تدخل عسكري أمريكي أو تصعيد إسرائيلي غير محسوب ربما يؤدي إلى ارتفاعات غير مسبوقة. إن أسعار الطاقة في الداخل الأمريكي تظل عاملا محددا لتحركات الرؤساء الأمريكيين على اختلاف توجهاتهم. المعروف أن سياسة Maximum Pressure وضعها ستيفن مول Stephen Mullرئيس الفريق الانتقالي لترامب في وزارة الخارجية الأمريكية، بينما سيعود براين هوك المبعوث الأمريكي السابق لشئون إيران ليلعب دورا في تشكيل الإدارة الجديدة. وقد صرح هوك مؤخرًا أن ترامب سيعود إلى سياسته السابقة تجاه إيران. وقال "سوف يعزل طهران دبلوماسياً ويضعفها اقتصادياً".
قدرة ترامب على تحجيم توسع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط لم تثبت نجاحها، في الفترة الأولي، خاصة بعد انسحابه من الاتفاق النووي الذي وقعه أوباما ووصفه بأنه الأسوأ من نوعه. وقد قامت إسرائيل بإنجاز جزء كبير من مهمة ضرب أذرع إيران في المنطقة والقدرات العسكرية في الداخل الإيراني، وتصفية قيادات بارزة في الشهور الأخيرة، وتسديد ضربات موجعة لقوة الردع الإيرانية بعد سنوات من صعود النفوذ الإيراني في سائر المنطقة وهو ما يعني أن ترامب ربما يروق له ما يفعله نتانياهو ويشجعه على مزيد من الضربات المؤثرة ضد إيران، بما في ذلك المشروع النووي، على أن يبدأ بعدها التفاوض بالطريقة التي يريدها.
الحلفاء في المنطقة: حسب إلبريدجكولبي، المؤسس المشارك والمدير في مبادرة ماراثون، وهي مؤسسة فكرية في واشنطن مقربة من ترامب، تولي منصب نائب مساعد وزير الدفاع للإستراتيجية وتطوير القوات في عهد ترامب فإن الرئيس المنتخب"لا يسعى إلى العزلة، بل إلى تحالفات تفيد الشعب الأمريكي". من هذا المنطلق، يبدو ترامب منفتحا على التحالفات التي تصب في المصلحة الأمريكية وهو ما يرجح أن يسعي ترامب إلى إتمام مشروعه في بناء تحالف واسع في الشرق الأوسط رغم الانتكاسة الكبيرة التي تسببت فيها حرب غزة وانفتاح شهية نانتياهو وتحالفه المتشدد على التوسع على الأرض وتنفيذ خطة الجنرالات التي تعني الاستيلاء على أراضي شمال قطاع غزة وعودة الاستيطان.
ينتظر أن يستأنف ترامب سعيه لبناء التحالف من خلال التوصل إلى اتفاقية دفاعية مع السعودية، وربما دون انتظار للتقارب السعودي-الإسرائيلي، تكون نواة لتفاهمات أكبر في سائر المنطقة. ربما يثير البعض في واشنطن تحفظات على الاتفاق الأمريكي-السعودي على خلفية الامتيازات التي تقدمها الولايات المتحدة للحليف الأهم في منطقة الخليج. كانت صفقة الأسلحة الكبرى بين واشنطن والرياض في عهد رونالد ريجان (١٩٨٠) قد أدت إلى اعتراضات من أنصار إسرائيل وظهور جماعة الضغط AIPAC للدفاع عن المصالح الإسرائيلية وتوقيع اتفاق ثنائي بين واشنطن وتل أبيب تحصل بموجبه إسرائيل على أحدث الأسلحة. ويحتاج تمرير الاتفاقية مع السعودية إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، وهو ما يعني الحاجة إلى أصوات عدد من الأعضاء الديمقراطيين. كما أن الولايات المتحدة منفتحة على مناقشة حصول دول في المنطقة على مفاعلات نووية للأغراض السلمية ويدور التفاوض حول تخصيب اليورانيوم داخل أم خارج تلك الدول.
تقوم الأفكار التي تروجها مراكز التفكير المقرب من ترامبعلى أن الولايات المتحدة يجب أن تتبني إستراتيجية متماسكة لتجنب الوقوع في صراعات الشرق الأوسط. على سبيل المثال، أشارت دراسة لمبادرة ماراثون إلى أن تهديد الحوثيين في البحر الأحمر هو أحد أعراض مشكلة أكبر مع إيران. وفي سبيل معالجة هذا التهديد، وحسب الدراسة، يجب أن تقوم واشنطن باحتضان شركائها العرب والإسرائيليين للقيام بعزل إيران. إن زيادة الضغوط بالعقوبات وحظر الأسلحة هي حلول قصيرة الأجل، ولكن على المدي الطويل يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على تعزيز اتفاقيات إبراهام بطريقة تخلق المزيد من تقاسم الأعباء بين الشركاء العرب من أجل أن تتمكن واشنطن من التركيز على الصين بشكل أكبر. وما ينطبق على مناطق أخرى من العالم ينطبق على الشرق الأوسط، فيقول كولبي"لا ينبغي أن تكون السياسة الخارجية ديناً. يتحدث الرئيس بايدن دائما عن تحالفاتنا باعتبارها مقدسة". ويوضح "إن فكرة أن هذه الترتيبات مع الدول الأجنبية مقدسة هي نوع من سوء الفهم، ويجب أن تكون من المنطق السليم، ويجب أن تكون مفيدة للطرفين، على المدى الطويل".
ويراقب المقربون من ترامب إمكانية تصاعد خطر نشوب حرب متعددة الجبهات تجد الولايات المتحدة نفسها منخرطة فيها، خاصة ضد روسيا والصين وإيران. ومن وجهة نظر المخططون الاستراتيجيون في فريق ترامب أن الرد الأمثل يكون من خلال تبني إستراتيجية متتابعة تهدف إلى إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا في أوكرانيا أولاً، وفقا لجدول زمني أسرع مما تستعد به الصين للتحرك ضد تايوان. في تلك الحالة، تحتاج الولايات المتحدة إلىتوزيع الأدوار والمهام بشكل أكثر فاعلىة مع حلفائها في أوروبا والمحيطين الهندي والهادي. وتنطلق تلك الرؤية، أيضا، من إمكانية تحقيق الردع الاستراتيجي بتحديث القوات الأمريكية وتوزيع الأعباء على الدول الحليفة، في أي منطقة في العالم، لوقف الإنفاق غير العقلاني الذي يمكن أن يؤدي إلى استنزاف أكبر للقوة الأمريكية.
الحرب الأوكرانية
في الختام، تفرض مجموعة من التطورات الجيوسياسية والاقتصادية على إدارة ترامب في فترة حكمه الثانية التحرك بطريقة مخالفة لأسلوب الحكم في الفترة الأولى خاصة في ظل صعود الصين وتمدد نفوذها على المسرح الدولي، وأيضا ما تشكله روسيا من تحدٍ كبير للأمن الأوروبي، في ظل الحرب الأوكرانية، بما يحتم علىه اتباع سياسة مختلفة في التعامل مع موسكو لاحتواء مخاوف الشركاء، وتدهور الأوضاع بشكل مخيف في الشرق الأوسط. يسود الاعتقاد في واشنطن أن فريق ترامب سيدير سياسة أكثر جراءة لتعبئة قدرات الحلفاء للتوصل إلى تسويات في بعض الأزمات الكبرى ومواجهة القوي الصاعدة في السياسة الدولية دون تدخل الولايات المتحدة عسكريًا أو تحملها أعباء مالية تقوض من مشروع ترامب. كما أن سياسة ترامب في الشرق الأوسط يعتريها الكثير من الغموض نتيجة غياب رؤية متماسكة، خاصة بشأن الوضع في غزة ولبنان، وهو ما يفتح الباب للتكهنات والتوقعات من جانب خبراء السياسة، فيما تتقلب أمزجة الشعوب في المنطقة، التي أرهقتها الحروب، ما بين التفاؤل والتشاؤم.