لست من أنصار المذهب الظاهري، القائم على الارتكان والارتكاز إلى ظاهر النص وتفسيره تفسيرًا ظاهريًا، وإنما المجتهد الذي يُعمل عقله هو الذي يغوص ويتعمق في باطن النصوص يأولها تأويلًا يخدم واقعه الذي يحياه.
نتفق على أمر بدهي لا ينكره إلا جاحد، أو معاند، أو مكابر أو ضال ومُضل، يجد الحق واضحًا أمامه وضوح الشمس في كبد السماء، لكنه مصر ومستكبر، (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا).
هذا الأمر البدهي، أن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، حاولوا أن تعدوا هذه النعم، ليس على الإنسان فقط، بل على كل المخلوقات.
ألم يقل الله تعالى، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، ظاهرة، أنه تعالى سخر لنا كل شيء لخدمتنا، (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) سخر الجبال لحفظ توازن الأرض، البحار الأنهار، الشجر، الدواب، الليل والنهار، الشمس والقمر.
(لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، كل في مجراته يسير في انتظام لا يحيد ولا يميد عما سخر له، (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ)، شعورك بالراحة النفسية وأنت تنظر إلى جمال الخيول في حلبات السباق وتناسقها العضلي الجميل، وشعرها الجميل وهيرمونية وتناغم حركاتها، ألا يشعرنا ذلك الجمال بإبداع المبدع تعالى وعلا، ثم أنظر إلى نعم الله تعالى على الإنسان، (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، هل من خالق غير الله، من الذي خلقنا فسوانا فعدلنا، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ)، أليست كل هذه نعم الله تعالى علينا!! هذه بعض نعم الله جل وعلا الظاهرة.
أما النعم الباطنة فهي لا تعد ولا تحصى، انظروا إلى الجوانب المادية في حياة الإنسان، من الذي أعطاك الآلات التي ينتظم بها عمل هذا الجسد، فمن الذي خلق بداخلنا الحرارة والبرودة واليبوسة بنسب ومقادير معتدلة لحفظ توازن واعتدال الجسد، بالضرورة المنطقية الله تعالى، لماذا لأنه لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك وإلا سيحدث الاختلال النسبي والتناسبي، القلب، الكبد، الطحال، البنكرياس، المعدة، الأمعاء وحركاتها وانتظام هذه الحركات، هل من خالق غير الله، أروني ماذا خلق الذين من دونه.
في نومك من الذي يحفظ عليك نفسك ويردها عليك فتستيقظ، "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"، ثم انظروا واعتبروا، أيدكم الله بروح منه، إلى أعظم نعم الله تعالى علينا وهي نعمتا العقل والإرادة؛ فبالعقل نميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والحُسن والقُبح.
والإرادة الحرة التي وهبنا الله تعالى إياها، نكون مسئولين عن أفعالنا، وعن تصرفاتنا فبإرادتنا نتجه ناحية السمين ونترك الغث.
أليست هذه نعم لا تعد ولا تحصى، ومن ثم وجب على كل ذي عقل رشيد، علم سديد، أن يشكر المنعم سبحانه وتعالى.
وإذا ما وهبك الله نعمة، لا تقل كنت أعلم أن الله سيؤتينا المال؛ لأني اجتهدت وسعيت وعملت، لكن قل الحمد لله الذي وفقني للعمل فكثيرون يعملون ويجتهدون ورزقهم ضيق فقل الحمد لله.
لا تقل أنا ذاكرت ونجحت بمجهودي، نعم ذاكرت واجتهدت، لكن من الذي وفقك وسددك وهيأ لك الأسباب، فلتشكر المنعم الذي أنعم عليك بكل هذه النعم، فشكر المنعم يزيدها ويسمنها ويكثرها.
سيدنا إبراهيم أيقن نعم الله عليه فشكر الله تعالى على هذه النعم، أن هداه الله ووفقه إلى معرفته، أن وهبه الابن بعد عقم طويل، ووهب هذا الابن الحياة بعد أن هيأه للذبح، فشكر الله.
ومن نعمه عليه أن رد عنه رجز الشيطان ووسوسته في موضوع ذبح ابنه، شكر الله تعالى أن أخرجه من النيران الموقدة وجعلها بردًا وسلامًا، "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ"، ولذلك قال الله إن إبراهيم كان أمة بذاته، لماذا؟ لأنه شكر أنعم الله ولم يكفر بهذه النعم مثلما كفر بها قارون، عندما قال "إنما أوتيته على علم عندي"، فكانت النتيجة "فخسفنا به وبداره الأرض"، وعاد وثمود، وقوم تبع، وأصحاب الأيكة، وصاحب الجنتين.
وفي كل عصر وفي عصرنا أقول لمحدثي النعمة، لا تطغوا في الأرض ولا تتكبروا ولا تتعالوا على خلق الله بمنصب ولا جاه ولا سلطان، ولا مال، ولا جمال.
فلابد أن نعود إلى رشدنا ونعلم أن المنعم هو الله، والذي يعطيك في لمح البصر يأخذ ما أعطاك إياه، وأقول لمن تأخر عنه الرزق أو أمسكه الله، لا تهن ولا تحزن فإن الله أخره عنك لحكمة لا يعلمها إلا هو، واعلم أن رزقك سيأتيك حتمًا فالضامن له هو الله.
فهل شكرنا المنعم سبحانه أن هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله؟!
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان