الإسكندرية ..عروس البحر المتوسط، مدينة عريقة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ؛ فتاريخها طويل ومتشعب، وقد أسهم في كتابته كثير من المؤرخين القُدّامى والمُعاصرين، والواقع إن الإسكندرية قد أضافت إلى مصر البُعد المتوسطي الذي ربط مصر بشعوب وحضارات البحر المتوسط.
هذه الحقيقة أثبتها الدكتور محمود محمد خلف، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية، والدكتور مساعد سالم الزهراني أستاذ التاريخ المساعد بجامعة بيشة بالمملكة العربية السعودية في كتابيهما الصادر مؤخرا بعنوان "فضائل الإسكندرية وعسقلان" لابن الصباغ السكندري.
يرجع تاريخ بناء الإسكندرية إلى الإسكندر الأكبر "ملك مقدونيا"، والذي زار قرية راقودة الصغيرة المطلة على البحر المتوسط؛ فأعجب بموقعها؛ وأمر مهندسه(دينو قراطيس) بتشييد مدينة في هذا الموقع تحمل اسمه.
وبالفعل تم بناء المدينة في شكل رقعة الشطرنج حيث تألّفت ـ آنذاك ـ من سبعة شوارع عرضية تمتد بين الشرق والغرب ويتوسطها شارع كانوب (طريق الحرية حاليًا)، وأحد عشر شارعًا طوليًّا تمتد بين الشمال والجنوب، ويتوسطها شارع السوما (النبي دانيال حاليًا)، والنطاقات مربعة الشكل الناتجة عن تقاطع الشوارع المُشار إليها هي التي استغلت في بناء مساكن المدينة ومنشآتها المختلفة، ثم اتسع عمران الإسكندرية بصورة متدرّجة، وازدهرت أوضاعها الاقتصادية والثقافية وخاصة أنها ضمت مكتبة الإسكندرية القديمة ومنارتها التي تعدّ إحدى عجائب الدنيا السبع، وظلّت المدينة عاصمة لمصر منذ إنشائها عام 332 ق. م حتى دخول العرب المسلمين مصر عام [21هـ/642م].
وقبل صدور ذلك الكتاب المحقق عن مخطوط ابن الصباغ السكندري، شارك الدكتور محمود خلف، والدكتور مساعد الزهراني بدراسة تحت عنوان"الإسكندرية في كتابات المؤرِّخين المسلمين..مخطوط « فَضَائِلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ» لابن الصَّباغ السكندري أُنْمُوذَجًا"، وذلك عبر المؤتمر السنوي الرابع لمركز تحقيق التراث حول "تراث مدينة الإسكندرية"، الذي أقيم تحت مظلة دار الكتب والوثائق القومية برئاسة الدكتور أسامة طلعت، ورعاية زارة الثقافة المصرية.
وقد تم تقسيم البحث إلى مبحثين رئيسين، الأول: المدخل التاريخي: يتناول أحداث فتح الإسكندرية، مع التركيز على معركتي نقيوس وكريون، ثم استقرار العرب الفاتحين بها، وأهم الأحداث التي وقعت بالإسكندرية حتى نهاية خلافة عمر بن الخطاب ؛ والذي بلغ من حرصه ـ بعد الفتح الثاني للإسكندرية ـ أنه كان يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة المنورة ترابط في الإسكندرية، وكان يولي ذلك ـ دائمًا ـ اهتمامًا بالغًا؛ فلا يغفل عنها، ولا يأمن الروم عليها، حتى انتقل إلى جوار ربه، ثم أوردنا تحليلٍ لآراء المؤرخين المسلمين، وردٍ على مزاعم المستشرقين الغربيين، وفي مقدمتهم ألفرد بتلر.
أما المبحث الثاني، فجاء تحت عنوان "التحليل التاريخي"؛ نظرًا لمكانة الإسكندرية وأهميتها التاريخية، فقد أولى المؤرخون المسلمون ـ على مر العصور ـ اهتمامًا كبيرًا بتدوين تاريخ تلك المدينة العريقة، فوصلت إلينا مئات المُصَنَّفات العلمية، كثيرها مطبوع، وقليلها مخطوط، ومن أشهر تلك المؤلفات: مخطوط «فَضَائِلُ الْإسْكَنْدَريَّةِ»، والذي تنازع في نسبته إليه، ثلاثة من المؤرخين العظام: ابن الصَّباغ السكندري، وابن الصّلاح الدمشقي، والسيوطي المصري، وبعد بحث ودراسة في إشكالية نسبة المخطوط لمؤلِفه الحقيقي، ثبت لدينا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن المخطوط من تأليف: الحسن بن عمر بن الحسن الصّباغ السكندري ـ لم نعثر على تاريخ وفاته ـ، وقد أوردنا خمسة أدلة تثبت صحة ذلك، مع دراسة تحليلية للمخطوط، وما قدّمه من معلومات تاريخية مهمة في هذا الشأن.
طبق المحققان في هذا البحث المنهج التاريخي الوصفي، فجمعا معظم المعلومات التاريخية ــــ التي وصلت إليهما عن فتح الإسكندرية ـــــ من بطون المصادر العربية، وقاما بتحليل هذه المعلومات تحليلًا علميًا؛ وذلك للوقوف على الدور العلمي الذي قدّمه مخطوط «فَضَائِلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ» لابن الصَّباغ السكندري، في دراسة تاريخ الإسكندرية في عصورها الإسلامية.
أثبت البحث أن بعض النساخ في العصور الإسلامية ـ للأسف الشديد ـ كانوا يقومون بنسبة الكتاب إلى غير صاحبه، والسبب في ذلك ربما يكون تعمدًا لغاية تجارية أو نفسية، أو اشتباهًا أو غفلة أو جهلًا أو غيرها، وأن مهمة المُحَقِقِ في التراث الفكري الإسلامي لا بد أن تكون مصحوبة بالحذر، فلا يكفي أن نجد عنوان الكتاب واسم مؤلفه في ظاهر النسخة لنحكم بأن المخطوطة من مؤلفات صاحب الاسم المثبت، بل لا بد من إجراء تحقيق علمي يطمئن معه الباحث إلى أن الكتاب نفسه صادق النسبة إلى مؤلِفه.
يضاف إلى ذلك، أن المخطوط، أورد لنا ما يقرب من ستة وستينَ نصًا؛ ما بين أحاديث نبوية وأشعار منظومة وأقوال مأثورة وروايات تاريخية؛ حول فضل الإسكندرية، وفضل المرابطة فيها، مع انفرادٍ بذكر بعض الأحداث التاريخية التي لم نعثر عليها في مصدر تاريخي آخر.
ومن التوصيات المهمة للبحث، ضرورة دراسة المخطوط العربي، فعلى الرغم من التقدم العلمي الكبير الذي تشهده الجامعات العربية والمجامع العلمية، ما زال هذا الأمر صعبًا ويحتاج إلى باحثين مجدين يحملون هم البحث العلمي الدقيق، ويتحرون الأمانة العلمية في التحقيق، وهذا يحتاج لتقديم الدعم المالي اللازم لدعم مراكز تحقيق التراث، حتى يتسنى لشباب الباحثين التفرغ لدراسة وتحقيق المخطوط العربي، فهو عمل شاق لا يتحمله إلا أُوْلي العزم من طلاب العلم.
كتاب فضائل الإسكندرية وعسقلان لابن الصباغ السكندري مخطوط فضائل الإسكندرية وعسقلان لابن الصباغ السكندري مخطوط فضائل الإسكندرية وعسقلان لابن الصباغ السكندري د. محمود محمد خلف د. مساعد الزهراني