ما عاد يدرك واقعه، يعيش على هامش الحياة إلا أنه كلما أحس بوجوده تتفتح آفاق الوعى منه مبتهجا بالحياة كأنها الجنة على الأرض وما كان له أن يشعر بذلك إلا عندما يراها ولا يراها غيره، مازالت جميلة تملأ الدنيا حولها عبيرا، يقترب منها، يحاول أن ينطق، لكنها تختفي فى الأفق، يمسك بها سرابا يمضى عنه كل صباح.
موضوعات مقترحة
لا يريد أن يصدق رحيلها عنه إلى الأبد، يقاوم اشتياقه العاجز، يراها خيالا، لحظات خاطفة يعيشها عمرا منذ أن فارقتك حبيبته بلا مقدمات من مرض غير أنها غادرت شبابها فى صمت مفاجئ للقلب ولم يمض على زواجهما بضعة أشهر.
الصدمة فاقت قدرته على الاحتمال، انسلخ من الواقع الذى أوقعته الأقدار فى براثنه ليعيش معها عالما موازيا لا يحيا فيه غيره وغيرها.
فى طرقات البلدة المتأخمة للزراعات كانت بدايتهما، طفلين تشرق الدنيا فى قلبيهما عمرا وعشقا حتى جمعتهما أربعة جدران فى سعادة ما بعدها سعادة.
كانت ابنة عمه وعروسه والأمل الذى حلم به طفلا وعاشه شابا وشاب فى صباه على الحرمان منه، أهل القرية يعرفون قصته ويشفقون عليه فما ضاع عقله وبات هائما فى الطرقات إلا بعد موت حبيبته، لا يفكر إلا فيها، يبحث عنها فى الحقول مع انسحاب العتمة وتباشير الصباح إلى أن تنسدل أستار المساء.
أشقاؤه أودعوه مصحة للأمراض العقلية، خرج منها وقد برئ من جنون حبه الغائب، لا يهذى ولا ينادي عليها، يقضى بعض يومه فى المسجد الصغير آخر البلدة ، يذهب إلى المقابر يلوذ بها حتى يعييه الإجهاد فيعود أدراجه إلى البيت يلتحق فراشا ضمهما يوما، غائبا عن الوعى حتى الصباح.
كانت ملامحه تبدو جامده، متبلدة عندما أتانى ربما لم يكن يعرف ماذا يريد، بادرته أن يستريح وأن أحدا لن يقتحم صمته ولكنه قال ما جئت إلا لأن أتكلم، نصحنى أخى أن أحكى لك حكايتى، أعرف أن لا حل لما أنا فيه غير الموت محطة أنتظرها حتى ألقى من أحب، قد تدهش أن رجلا فى هذا الزمان يعيش على ذكرى إنسانة أحبها ولكنها حياتى أتجرعها انتظارا للنهاية إلا أن بريقا من أمل بعيد بت أحسه كلما كنت فى المسجد أسمع القرآن وكأن الله يتحدث إلى، يترفق بى، ما كنت أشعر براحة كهذه من قبل، ما ساعدنى على استعادة أشلاء نفسى وعدت لعملى حتى أتوافق مع الحياة بعض الشئ لكنى أشعر بضيق يخنقنى ويشعل وحدتى نارا من شوق ورهبة لسراب غائب، لا أتصور يوما أن تنقشع ظلمة يأسى كما يقول لى أخى بالزواج من امرأة أخرى غير حبيبتى الراحلة وكأننى مازلت أصلح للحياة.
كانت ملامحه مازالت جامدة وهو يتحدث غير رعشة خفيفة انتابت يديه، أشرت له أن يتوقف عند حكاية وقعت لرسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان يحب السيدة خديجة حبا عظيما فهى أول من ساندة فى بداية الدعوى للإسلام فى مواجهة الكفار وكانت صدمته كبيرة عندما رحلت عنه حتى أنه سمى هذا العام الذى شهد رحيلها وتصادف فيه رحيل عمه الذى قام على تربيته أيضا عام الحزن وبرغم قسوة الحدث على الرسول إلا أن الحياة استمرت وعوضه الله عن حبه بحب أعظم من البشرية كلها.
من هذا المنطلق يا أخى لا تفقد تواصلك مع روحك واجعل من عاطفتك الجياشة نبراسا من نور تشق به ظلمات اليأس من حولك وعلك توقن أن أخيك ما نصحك إلا بالخير فقد يكون فى إنسانة أخرى العوض العظيم ومن يدر ألا يمكن أن يرزقك الله سبحانه وتعالى بطفل هو بعض من روحك تتجدد معه حياتك من جديد وترى نفسك فيه وهو يكبر يوما بعد يوم.
يا صديقى مازال أمامك فى الحياة كثير من أحلام لم تحققها بعد وإلا لماذا يبقيك الله حيا على الأرض إلا لرسالة لم تكتمل عليك أن تسعى لاستكمالها.
تذكر يا أخى قول الله تعالى فى سورة الزمر "أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) ۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"
صدق الله العظيم
و لعل روحك تهدأ وتستكين ما صدقت وعد الله فلا تقنط ورحمة الله تتسع لك ولكل خلقه فكن على يقين من ذلك.