شغل الدكتور "طه حسين" منصب وزير المعارف في حكومة الوفد الأخيرة في الفترة من 12 يناير 1950م وحتى 27 يناير 1952م، سياساته وشكل التعليم في زمنه مسائل قد تكون محل نظر وخلاف بين مؤيد ومعارض، لكن يبقى جانب إيجابي لا يختلف عليه أحد هو شهامة الدكتور "طه حسين" خلال هذه الفترة وقبلها أيضا في دعم الآخرين على اختلاف توجهاتهم ومد يد العون لهم قدر الإمكان ..ولقد حفظ التاريخ صورًا من هذا الدعم والمساندة بما يصلح أن يكون مرشدًا لكل صانع قرار رفعته المقادير لمنصب كبير يستطيع من خلاله مساعدة كل من كان في عثرة أو كبوة وتبني وتشجيع آمال وتطلعات طاقات عظيمة من أبناء أمته.. ونستعرض هذه الصور عبر هذه الحكايات التي تتنوع شخوصها وملامح أحداثها...
عميد الأدب العربي د. طه حسين
الحكاية الأولى.. عميد الأدب العربي والشاب القهوجي
نحن أمام مشهد ثقافي فريد يجمع العامة والخاصة حول قيمة الكلمة ومكانة الكتاب كإضافة حقيقية لقارئه .. في وسط هذا الزحام كان هناك شاب يدعى "عبد المعطي المسيري " يشارك أبيه العمل في مقهى "رمسيس" الذي ورثه عن جده بشارع الأميرة "فوقية" بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة.
مقهى المسيري بدمنهور
استطاع "عبد المعطي" أن يثقف نفسه بنفسه ولعب القدر دورا مهما في حياته، حينما قرر أن يرد على مقال للدكتور "طه حسين" في جريدة " الوادي"، وكان الأخير قد ضمن مقاله المنشور فى6 يونيو 1934م هجومًا لاذعًا على ديوان للشاعر "إبراهيم ناجي" أحد أعمدة مدرسة " أبوللو"، وكذلك القاص "إبراهيم المصري".
ومما جاء في هذا المقال:"ونحن نكذب شاعرنا الطبيب إن زعمنا له أنه نابغة، بل ونحن نكذبه إن زعمنا له أنه عظيم الحظ من الامتياز، وإنما هو شاعر مجيد تألفه النفس، ويصبو إليه القلب، ويأنس إليه قارئه أحيانا، ويطرب له سامعه دائما، فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذى يريد أن يقسم الشعر أنصافًا وأثلاثًا وأرباعًا، كما يقول بعض الفرنسيين، لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أن يدركنا ويفر عنه الجمال الفني قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل".
جاء رد " المسيري" على مقال "طه حسين" تحت عنوان " في الثقافة" وفوجىء "المسيري" بنشر مقاله بالإضافة إلى مقالة لطه حسين بعنوان "في تنظيم الثقافة"، وذلك في بابه الشهير "حديث الأربعاء " في 19-9-1934م .. يقول " المسيري" القهوجي البسيط مُعرفًا بنفسه في مقاله:"إننى يا أستاذى الجليل شاب لم أتعلم فى المدارس، بل لم أتشرف بدخولها، تعلمت الكتابة والقراءة وأنا فى السوق أكابد العيش، استطعت أن أقرأ واكتب، وكانت مهنتى تحتم علىٌ أن أظل جالسا أربع عشرة ساعة، كيف يمضى هذا الوقت؟ أخذت أقرأ وابتدأت بالأدب القديم ككل قارىء يقرأ للتسلية، فالتهمت كتب ألف ليلة وعنترة والزير سالم، هذا فى ساعات النهار، وفى الليل الصحف والمجلات" علاوة على متابعته للشعر وما يترجم عن الفلسفة وفروعها مع دواوين وكتب وروايات الأفذاذ والأعلام أمثال: أحمد شوقى، وحافظ إبراهيم، وطه حسين، وعباس العقاد، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، والمازنى وغيرهم.
عبد المعطي المسيري .. الشاب الذي أحرج طه حسين
ويدخل الشاب في صلب نقده لأسلوب العميد بقوله :"سيدى، أراك تتخذ لنفسك فى النقد خطة هدامة لا سبيل للبناء معها، فأنت تعمل معولك فى كل ما يصادفك دون رحمة، قد تقول إن النقد خير مقوم للكاتب، وأنا معك فى ذلك. ولكن ها أنت ترى الدكتور ناجى يصرح أنه دخل ضيفًا على الأدباء، فلم يحسنوا وفادته، ولذلك فهو لا يفكر أن يكون ضيفًا مرة ثانية، وترى الأستاذ إبراهيم المصرى قد حرم القراء من مقالاته القيمة واختفى على أثر نقدك لقصته (نحو النور)، ألا ترى معى أنك كنت قاسيا حينما شاهدت أثر النقد ولم تلق بالمعول وتمسك بأدوات البناء؟".
ويُذكر طه حسين بمحاولاته الشعرية القديمة، منتقدًا قصيدة له نظمها في 26 أغسطس 1909 م، متسائلاً :"كيف سيكون موقفك لو تعرضت لما تعرض له هؤلاء الشعراء؟!!" وكما كان هجوم "المسيري" الشاب البسيط المكافح مباغتًا ومفاجئًا، فقد جاء رد طه حسين عليه مفاجئًا هو الآخر فبدلاً من أن تأخذه الخيلاء ويتعالى على خصمه إذا به يشيد بأسلوبه الأدبي والرائع ويثني عليه في تصرف أخلاقي يليق بالعميد.
يقول "طه حسين" : "كان ظريفَا ممتعَا هذا الفصل الذى نشرته جريدة الوادي مساء الأحد الماضى للكاتب الأديب عبدالمعطي المسيرى بدمنهور. يجادلنى فيه حول ما كتبته فى نقد الشعراء، وفى ثقافة الأدباء، وقرائهم، وأشهد أنى قرأت هذا الفصل مرتين، قرأته قبل أن آذن بنشره، ثم قرأته الآن قبل أن آخذ فى كتابة هذا الفصل، ووجدت فى قراءته لذة قوية، متاعًَا خصبَا، وأحسست إعجابَا عظيمَا بهذا الرجل الذى ثقف نفسه كما استطاع، لم يختلف إلى مدرسة، ولم يجلس إلى أستاذ، ولم يستمع من معلم، وإنما تعلم القراءة والكتابة فى السوق، وأخذ يقرأ ما يذاع فى العامة من هذا الأدب العامي اليسير، ثم أخذ يرقى شيئا فشيئا، حتى قرأ كل الكتاب المصريين المعاصرين، ثم الأدباء القدماء من العرب، ثم ما نقل إلى العربية من آثار الغربيين، وهو الآن على كثرة عمله، وثقل أعباء الحياة عليه، واتصال جده فى سبيل الحياة بضع عشرة ساعة لا يستطيع أن يستقبل النهار، ولا أن يستقبل الليل، إلا قارئا كاتبَا، وناقدَا مفكرا، كل هذا خليقَا بالإعجاب".
كتاب في القهوة والأدب لعبد المعطي المسيري
لم يكتف العميد بالإشادة بسيرة الفتى وكفاحه بل عمل على تشجيعه بصورة عملية فخصص له مساحة أسبوعية تصل إلى صفحة من الجريدة، وقد جمع مقالاته بعد ذلك في كتابه الأول "في القهوة والأدب" والذي صدر عام 1936م وتصدى العميد لكتابة مقدمة بديعة له، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى عدة لغات، وأثنى عليه المستشرق الروسي "أغناطيوس كراتشوفسكي" عميد كلية الآداب الشرقية في موسكو في الثلاثينات من القرن المنصرم.
ومما يروى أنه لما ذاع صيته تعاقدت هيئة الإذاعة البريطانية لتسجيل قصصه القصيرة نظير خمسة جنيهات للقصة الواحدة وكانت تلقى تفاعلاً شعبيًا واسعًا مع إذاعتها ..وهكذا كان العميد مفتاح سعد للمسيري الذي أصبح مقهاه يحمل اسمه وقبلة للأدباء والشعراء الذين أرادوا التعرف عليه عن كثب.
شهادة الدكتور طه حسين وتقديمه لكتاب عبد المعطي المسيري
د. محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري
د. محمد فتحي عبد العال