دونالد ترامب حالة فريدة في تاريخ أمريكا، يشبه أجواء قصيدة «عواء» للشاعر الأمريكي الشهير آلان جينسبرج، وأمريكا بلا تاريخ تقريبًا، في جعبتها 532 عامًا كأرض مكتشفة على أيدى الإيطاليين: أمريجو فيسبوتشى وكريستوفر كولومبوس، عندما وصلا في العام 1492 إلى أرض غريبة أو جديدة، وهوليوود صورت فيلمًا بعنوان “فردوس الأرض” عن كريستوفر كولومبوس عام 1992، بمناسبة هذا الاكتشاف المثير، والفيلم من بطولة الممثل الفرنسي الشهير جيرارد ديبارديو.
تاريخها، دولة ومجتمعًا، يبدأ مع الآباء المؤسسين عام 1776، أي قبل 248 عامًا، حين كتبوا دستورًا، وانتخبوا رئيسًا من بينهم، هو جورج واشنطن.
اختبأت وراء المحيطين، الهادئ والأطلسي، ترفض الانطلاق وراء حدود الماء، هكذا شاءت وعاشت، لكن رجلًا واحدًا، يجعلها تفكر، ولم لا أعود إلى العالم القديم؟
كان ذلك المفكر البحرى ألفريد ماهان، بطل هزيمة الأسطول الإسبانى الرهيب عام 1898.
ركبت أمريكا أمواج البحار والمحيطات، حلت محل الأساطيل البحرية الكبرى في زمانها، صارت هي القوة العظمى الوحيدة، ومن يركب أمواج البحر يصبح سيد البر.
مغامرة ماهان الناجحة، وأفكاره الطامحة، جعلت الأحلام الإمبراطورية تطفو على السطح.
كان مجرد طموح أمريكي، تحول إلى واقع مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وجدت أمريكا نفسها تقود السفينة بعد أن طردت بريطانيا وفرنسا من النفوذ العالمي، تحتل مكانة السيدة الأولى بلا منازع، تلك المكانة التي أخذتها إلى مستنقعات فيتنام، وجبال أفغانستان، وبلاد الرافدين، وجعلتها عالقة في فلسفة الحرب والغزو والزحف بلا مبرر.
هل جاء ترامب من بعيد، يمزق نظرية ماهان، ويستعيد أمريكا المختفية وراء المحيطين؟
ترامب ابن مهاجرين، ينتميان إلى ألمانيا وأسكتلندا، لا ينتمي إلى العائلات الأمريكية الحاكمة، وكثيرًا ما تبادلت الأدوار والوظائف، ولا ينتمي إلى النخبة في واشنطن، بل ينتمي إلى عالم الأثرياء كقطب عقارات شهير.
حين تقدم للترشح عن الحزب الجمهوري في المرة الأولى قوبل بسخرية النخبة، كان قادمًا من تليفزيون الواقع، والسهرات الملونة للسياسيين والصحافيين، كونه ثريًا أمريكيًا لا يتوقف عن جمع المال، ينخرط في تفاصيل النخبة الأمريكية.
معارفه في هوليوود، في الصحافة المكتوبة والمرئية، ووسط عالم الأثرياء، لم يتخيلوا قط أن يصبح رئيسًا لأمريكا ولو لساعة واحدة، لكنه تقدم ونجح في مفارقة أمريكية نادرة، نجح بخطاب لا يتلون بألوان السياسة النخبوية، أو يستند إلى مراكز التفكير “العميقة”، كان يعبر عن الأغلبية الصامتة.
أزاح حجرًا هائلًا في السياسة الأمريكية، حجر هيلاري كلينتون، زوجة أشهر رئيس أمريكي، يعزف آلة الساكسفون الموسيقية، ويطارد البنات الصغيرات، ويتحول الخيال مع ترامب إلى حقيقة دامغة.
النخبة في واشنطن لا تصدق ما يجري أمام أعينها، تكيفت قليلا، وضعت في طريقه رجالًا ونساءً يقدرون على فهم أمريكا الغامضة، قالوا لأنفسهم، هناك المؤسسات الحاكمة بقوة لا مرئية، وهناك مراكز التفكير، سوف تضعه في صندوق زجاجي شفاف، لا يستطيع أن يخرج عن الخطوط المرسومة.
خرج الغريب عن الخطوط، سار عكس الاتجاه، الخوف والخطر شكلا عالم النخبة، انتظروا أربع سنوات ليتخلصوا منه بمجيء جو بايدن، المتمرس في السياسة منذ خمسين عامًا، لم يعترف ترامب في أي وقت بالخسارة، ظل يقاتل على كل الجبهات، من وسائل الإعلام إلى القضاء، لم يستسلم.
كان الأول في كل شيء، أول رئيس رجل أعمال في الولايات المتحدة، أول شخص يترشح دون المرور على وظائف أمريكا السرية، أول شخص يخوض الانتخابات ثلاث مرات في التاريخ، يكسب مرة ويخسر مرة، يعود ليجد نفسه معادلة أمريكية جديدة، ومعادلة عالمية، ينتظرها بعض الناس ويخشاها بعضهم الآخر.
كانت أمريكا المكتشفة مفاجأة للعالم القديم، وهي الآن مفاجأة تدور عكس عقارب الساعة بين ماهان وترامب.