أسهم عبر مثقفيه ومفكريه النهضويين فى رسم مسار الحداثة العربية
موضوعات مقترحة
أظهر الشعراء اللبنانيون فى المهجر جرأة أكبر فى السعي ناحية التجديد
الطليعة اللبنانية جلبت الكثير من مظاهر الحداثة كما فعل يعقوب صنوع حين جاء إلى مصر ومعه المسرح فى صورته الأوروبية
هجرات الشوام ومن بينهم اللبنانيون أسهمت بقوة فى تغيير توجهات الصحافة الناشئة وحررتها من القوالب الرسمية
ارتبطت بدايات النهضة العربية، عند نهاية القرن التاسع عشر، بالدور الذى لعبه لبنان فى صياغة اشتراطات ذلك العصر، فهو البلد الذى أسهم عبر مثقفيه ومفكريه النهضويين فى رسم مسار الحداثة العربية، ويكاد يكون هو البلد الذى تأسست فيه بذرة الحداثة، ثم جاءت هجرة طليعته المثقفة إلى مصر، لتجد تلك البذرة أرضا خصبة، تستوعب تطلعات هؤلاء نحو النهضة والتحديث.
صحيح أن التحديث بدأ فى مصر، فى ظل دولة الوالى محمد على باشا، حيث اتخذت الحداثة شكلا مؤسسيا، وتكونت على ركيزتين أساسيتين هما الجيش والبيروقراطية، وأدرك المبشرون المبكرون بالوطنية المصرية، من أمثال رفاعة الطهطاوى، وعلى مبارك، أهمية إيجاد المؤسسات الرمزية التى تدعم وتؤكد الهوية الوطنية، مثل المدرسة والصحيفة ومؤسسات التعليم والمتاحف، وأسهم وجود تلك المؤسسات فى إغناء الرأسمال الرمزى لمصر فى محيطها، وتميزت عما جاورها من الدول العربية الشقيقة .
المتأمل فى مسار الأشكال الأدبية، التى رافقت هذا المسار التحديثى، لا يفوته بالطبع أن الكثير منها بدأ على أيدى الطليعة اللبنانية، فقد جلب هؤلاء الكثير من مظاهر الحداثة، كما فعل يعقوب صنوع، حين جاء إلى مصر ومعه المسرح فى صورته الأوروبية، كما أسهم مع آخرين فى خلق الصحافة الشعبية فى مصر، التى عرفت قبل حضوره صورة للصحافة الرسمية، مثلتها صحف من نوعية «الوقائع المصرية وروضة المدارس ويعسوب الطب والجريدة العسكرية».
وعلى الرغم من أن مؤرخى الصحافة، ومنهم الدكتور إبراهيم عبده يؤكدون، أن الصحافة الشعبية ولدت بأيد مصرية خالصة، فإن هؤلاء يشيرون كذلك إلى أن هجرات الشوام، ومن بينهم اللبنانيون أسهمت بقوة فى تغيير توجهات الصحافة الناشئة، وحررتها من القوالب الرسمية، كما غيرت من لغة الدواوين، وابتكرت لغة أكثر حيوية لديها قدرة على التفاعل مع الناس.
وبفضل هذا التحول وسعت الصحافة من المجال العام، بفضل صحف مثل «الأهرام» أو مجلات مثل المقتطف ثم الهلال، وساعد على ذلك أن البيئة المصرية تمتعت بأعلى سقف من الحرية، فى محيط الدول التى كانت تخضع للاحتلال العثمانى، وقد تبنت الصحافة قضايا اجتماعية وسياسية، أبرزها تحرير المرأة، ودعت لمقاومة الاحتلال، والبحث عن صيغ للاستقلال الوطنى لا تنكر التفاعل مع الحداثة الغربية وتحدياتها، كما ساعدت الصحافة فى التعرف على أشكال أدبية جديدة، وأسهمت المقالات فى تبلور النثر الفنى بمعناه الحديث، ولم تعد ممارسة الأدب قاصرة على الشعر أو الخطابة، وأدب الرسائل، كما كانت الحال فى الماضى، بل إن الشعر نفسه شهد تغييرات جذرية فى قوالبه، وانتقلت بعض الأسماء الناشئة مثل عباس العقاد، وطه حسين، عند بداية القرن العشرين، من كتابة الشعر إلى كتابة المقالات الأدبية، وفضلت الاشتباك مع قضايا مجتمعية شائكة
تيار التجديد
عبر مسار مواز تبنت الطليعة الإبداعية فى لبنان، وخارجه بعض الأشكال الأدبية الجديدة، وأظهر الشعراء اللبنانيون فى المهجر جرأة أكبر فى السعى ناحية التجديد، بعد أن تحمل شعراء المدرسة الكلاسيكية فى مصر من أمثال محمود سامى البارودى، وأحمد شوقى، وحافظ إبراهيم، راية استعادة الماضى، وإحياء تقاليد الشعر العربى القديم .
وفى هذا السياق لم يكن غريبا، أن يكون اللبنانيون، هم أول من حاول خلخلة البنية العمودية للقصيدة العربية الكلاسيكية، وتعطى تجارب، أمين الريحانى، وميخائيل نعيمة، ومى زيادة، وجبران خليل جبران، وخليل مطران، وجرجى زيدان، أكثر من صيغة تؤكد هذا الاتجاه الذى تنامى وترددت أصداؤه فى تجارب عربية ومصرية أخرى، تبلورت فى الثلاثينيات ناحية ميلاد قصيدة النثر، ومن قبلها الشعر المنثور، كما لدى أحمد زكى أبوشادى وبشر فارس وجميلة العلايلى، وحسين عفيف وحسن كامل الصيرفى، وغيرهم من شعراء مجلة أبوللو.
فى السياق الزمنى ذاته، بدأ الإنتاج القصصى اللبنانى يشغل حيزًا مهما فى المجلات الثقافية العربية، وبرزت أسماء كبيرة، جرجى زيدان، ويعقوب صرّوف، وفرح أنطون، ونقولا الحداد، ولبيبة هاشم، وزينب فواز ولعب هؤلاء أدوارا طليعية، وهناك من ينسب لبعضهم فضل ابتكار الرواية كشكل فنى جديد.
كما أن بعضهم كتب بلغات أجنبية، وحاز امتياز السبق فى التعريف بالأدب العربى الحديث، فلدينا «كتاب خالد»، وهى رواية نشرها أمين الريحانى بالإنجليزية عام 1911، وبالمثل فعل ميخائيل نعيمة ذلك فى كتاب «مرداد»، الذى نشره فى نيويورك، ثم ترجمه بنفسه إلى العربية وكذلك فعل جبران خليل جبران .
ميلاد الحداثة الروائية
برغم التقدم اللبنانى فى المهجر، فإن تغييرات داخلية شهدتها مصر مع ثورة 1919، أحدثت طفرة من نوع آخر، ودفعت الطليعة الأدبية إلى تبنى أشكال أدبية جديدة مثل الرواية، أو القصة لتطرح من خلالها القضايا الجديدة، وبدا أن السرد هو أكثر الأشكال ملاءمة لهذه التحولات التى ارتبطت بالهوية، فظهرت أسماء رائدة مثل توفيق الحكيم، ويحيى حقى، ثم نجيب محفوظ، واستفادت تلك الأسماء من الإرث الذى تركه أدباء المدرسة الحديثة فى مصر، من أمثال شحاتة وعيسى عبيد، وأحمد خيرى سعيد، وقد سعى هؤلاء إلى تقديم معالجات سردية ناضجة حول المجتمع المصرى.
وفى المقابل أسهم الانتداب الفرنسى على لبنان، أو الاحتلال الفرنسى للبنان (1920-1943)، بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الإمبراطورية العثمانية فى تحقيق بعض الاستقرار السياسى، بعد تجاذبات عنيفة شهدتها البلاد نهاية الحقبة العثمانية، وبفضل هذا الاستقرار ظهرت البدايات الأولى للرواية اللبنانية، والتى تتشابه كثيرًا مع بدايات الرواية فى مصر، فقد دافعت رواية «زينب»، لمحمد حسين هيكل عن أخلاقيات المجتمع الريفى، وبالمثل فعل رواد الرواية اللبنانية، الذين جندوا أنفسهم للدفاع عن قيم القرية، ومثلما تحولت رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم إلى عمل أيقونى، رائد فى تمثل فكرة التحرر والدعوة إلى الاستقلال، فإن رواية «الرغيف»، لتوفيق يوسف عواد فعلت الشيء نفسه عام 1939 فى لبنان.
حتى إن الأديبة مى زيادة المقيمة فى القاهرة، كتبت عن تلك الرواية قائلة:«لم يؤرخ أحد المأساة الغبراء التى عرفتها بلادى، كما أرّخها توفيق يوسف عواد فى «الرغيف»، كما وصفها مؤرخو الأدب والمستشرقون بـ«الرواية الرائدة»، فى تناولها الحرب الأولى والمجاعة التى ترتبت عليها فى لبنان، ثم جاءت روايته الشهيرة «طواحين بيروت»، لتكرس اسمه كرائد، كما تكرس اسم توفيق الحكيم، مع نشر يوميات (نائب فى الأرياف1937)، وبدأ مع الاسمين ميلاد زمن الحداثة الروائية، وبشكل عام شهدت بدايات الرواية اللبنانية، اهتماما بالتاريخ تجلى فى السلسلة الرائدة، التى بدأها جرجى زيدان من تاريخ العرب والإسلام، كما كتب مارون عبود روايته «الأمير الأحمر»، ثم ظهرت أسماء مثل، كرم ملحم كرم، وإميل حبشى الأشقر واصلت فى المسار ذاته.
أدب الخلخة والتجاوز
كما تركت الوجودية، وأفكار سيمون دى بوفوار، عن تحرر المرأة أثرها فى عمل، يصنف اليوم كعمل طليعى رائد فى الأدب النسوى، وهو رواية «أنا أحيا»، التى نشرتها ليلى بعلبكى عام 1958، وهى رواية فريدة فى حساسيتها، التى تأكدت بعد ذلك فى رواية «الآلهة الممسوخة»، وفتحت الباب بعدها لكاتبات أخريات، والأمر المؤكد أن فترة الستينيات كانت الأهم فى لبنان من حيث الحيوية، والإنتاج الثقافى وإدارة تفاعلات الثقافة العربية، من خلال ازدهار صناعة النشر التى جعلت من بيروت وجهة ثقافية صاعدة، إلى جوار المراكز الثقافية التقليدية، سواء فى القاهرة أم دمشق وبغداد، وهى العواصم التى تأثرت إلى حد كبير بالسياسيات التى راهنت على التخطيط المركزى، وتأميم الصناعات الإبداعية، فى حين ساعد المناخ الليبرالى فى لبنان، على توجيه الاستثمارات نحو هذا القطاع الذى حقق طفرات كبيرة، جعلت البعض يطلق المقولة الشهيرة: «مصر تكتب ولبنان تطبع وبغداد تقرأ».
وبفضل هذا المناخ عرف لبنان مساجلات، ومعارك ثقافية مهمة، بعضها دار على خلفية صعود القومية العربية، بعد حرب السويس 1956، بعدما تبلورت شعبية الرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر، وامتد أثره إلى خارج مصر، حيث بدأ التعامل معه كزعيم عربى، كما ظهرت خلال الفترة نفسها النسخة البعثية من خطاب القومية العربية، وهى نسخة كانت فى عداء مع النسخة التى أرادها جمال عبد الناصر، سواء جاءت من سوريا، أم من العراق، بعد فشل مشروعات الوحدة المصرية مع البلدين.
وعلى الصعيد الثقافى، تبنت مجلة الآداب الخط القومى فى مواجهة مجلات أخرى، اتهمت بتبنى أفكار مضادة لهذه القومية، وأبرزها مجلة «شعر»، التى انطلقت من هامش ثقافى فرانكفونى محدود، ضم أسماء مثل يوسف الخال، وشوقى أبو شقرا، وأنسى الحاج وأدونيس، ومحمد الماغوط، وسنية صالح وخالدة سعيد، ورياض نجيب الريس، لكنها تحولت إلى مجلة رائدة فى تبنى حركة التجديد فى الشعر العربى، وتقديم نماذج ناضجة لقصيدة نثر عربية، وفق الشروط التى حددتها الناقدة الفرنسية سوزان برنار، فى كتابها عن قصيدة النثر فى فرنسا.
وعلى الرغم من اتهامات طالت المجلة، التى وصمت بالشعوبية والدعوة إلى تبنى الإرث الفنيقى، فى مواجهة صعود خطاب القومية العربية لصالح دعم خطاب الحزب القومى السورى، فإن تأثيرها الفنى كان قويا ومؤثرًا، فى تأكيد أسماء من خارج لبنان، مثل سعدى يوسف وآخرين، وسجالت المجلة ومعها مجلة «حوار»، التى دعمتها المخابرات الأمريكية، على الرغم من جدية محتواها، وتفرده إبداعيا قصيدة المشروع القومى التى قدمتها أسماء مهمة فى مصر والعراق، مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى، وناقشت المجلتان كذلك صور الدعم، الذى قدمته السلطة لهذا الشعر، لتأكيد حضوره عبر منابرها الرسمية، وظلت «شعر» مصدر إلهام للأجيال التالية، والتى كفرت تماما بالمشروع القومى عقب نكسة العام 1967.
كما أن احتضان بيروت لفصائل المقاومة الفلسطينية، بعد تداعيات أيلول الأسود فى سبتمبر 1970، أسهم مع موت الرئيس جمال عبد الناصر، فى وضع الأدب الطليعى، أمام تحديات من نوع أخرى، كانت وثيقة الصلة بالشكل الأمثل لكتابة «أدب المقاومة»، ومع التبلور الناضج لكتابات غسان كنفانى، وشعراء المقاومة من أمثال محمود درويش، ومعين بسيسو، وسالم جبران، وسميح القاسم، طرحت صيغة أخرى من صور الالتزام بالقضايا القومية، لم تناصرها مجلة «شعر»، تماما وظلت عند حدود موقفها الجمالى الخالص، قبل أن تتوقف عن الصدور خريف عام 1969، وقد روى يوسف الخال مبررات توقف المجلة، وظروفها على الشكل التالى فى إجابته على سؤال فى حوار صحفى: حدثت هزيمة 5 حزيران 1967، وكان العدد الثانى ماثلاً للطبع، ومع الهزيمة تغير الجو تماماً، وانقلب المناخ وصار القارئ العربى لا يهتم بالشعر ولابأى أدب إبداعى، وباختصار برزت اهتمامات خارجة عن الأدب والشعر والفن تماماً، وكانت المجلة بتعبيره «تعنى بالأدب الإبداعى، دون أن تهتم بواقع العالم العربى الذى يفتش عن شيء يقدر أن يمسك به».
وعلى الرغم من توقفها، فإنها هيأت الأجواء فى بيروت لاستقطاب تجارب أسماء شعرية متنوعة لمحمود درويش، ومحمد عفيفى مطر، وأمل دنقل وسعدى يوسف، ومحمد مهدى الجواهرى، ومظفر النواب، بحيث أصبحت بيروت مختبرا شعريا مؤثرا، وفى تاريخ الأدب العربى المعاصر توصف مجلة شعر، بأنها غيرت توجه الشعر العربى الحديث، ورفعته نحو الآفاق الجديدة، وانعكس هذا التأثير فى ظهور جيل جديد من الشعراء لمع عند نهاية السبعينيات، وأوائل الثمانينيات قدمته الصحافة اللبنانية من أمثال عباس بيضون، وبسام حجار ووديع سعادة، وعبده وازن وعقل العويط، وتحولت قصائد هؤلاء إلى نماذج ملهمة للشعراء خارج لبنان، وتم تصوير بيروت كمستودع للحداثة العربية، وتحولت إلى يوتوبيا المدينة المثقفة بتعبير الناقدة خالدة سعيد، برغم صور المعاناة التى جدت عليها فى زمن الحرب الأهلية .
جيل صنعته الحرب
كانت سنوات النصف الأول من السبعينيات فى لبنان هى سنوات المجد، فقد تحولت إلى أيقونة للحداثة، ومصدر جذب لجميع المواهب الراغبة فى تقديم نفسها إلى جمهور كبير، وتولت الصحافة اللبنانية ووسائل الإعلام تقديم كل صور الجذب والإغراء، وأصبحت بلدا منافسا لمصر فى صناعة الترفيه، وأسهمت ظروف تأميم صناعة السينما فى مصر، فى انتقال الصناعة بجميع رموزها إلى بيروت، وانتقل المجد من ستديو مصر إلى ستديو بعلبك، كما تحولت مهرجانات بعلبك، وبيت الدين إلى مهرجانات أكثر تأثيرا، بعد أن أطفاءت النكسة أضواء المدينة فى القاهرة.
لكن حالة الازدهار لم تدم طويلا، بعد أن اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990 )، وتراجع الشعر ليفسح المجال أمام صعود السرديات الأدبية، التى حاولت مقاربة موضوع الحرب التى أحدثت شرخا وانشقاقاً عن الرواية التقليدية القومية وأشكالها وثيماتها، وقدمت مادة أساسية فى الرواية اللبنانية الحديثة، تقوم على تقصى آثار الدمار والخراب والتهجير والموت، وكشفت بتعبير الناقدة فرح عريضى «ترنح صورة بيروت فى الذاكرة الجمعية، التاريخية منها والأدبية، بين بيروت الدمار والحطام، وبيروت الصاخبة: عاصمة كوزموبوليتية وثقافية، عصية على السقوط، وكثيراً ما سمعنا فى إثر كل كارثة حلّت بالمدينة، خطابات تطمئن البلاد والعباد بقدرة بيروت على النهوض مجدداً».
ذاكرة الخسارة
وعرف الأدب اللبنانى، معالجات لموضوع الحرب، تراوحت بين اليوميات كما كتب فواز طرابلسى فى «عن أمل لا شفاء منه» أو فى رسائله، مع أتيل عدنان وعلوية صبح فى «نوم الأيام»، ثم يوسف بزى «نظر إلى ياسر عرفات ثم ابتسم»، وبين النصوص الروائية التى حملت عبء التعبير عن التغييرات التى أوجدها الحدث الأهم فى تاريخ لبنان المعاصر، وظهرت أسماء مؤثرة من حيث طبيعة الالتزام السياسى، والتعبير عن خط قومى راسخ، وقاد إلياس خورى هذا الاتجاه فى رواياته المهمة خصوصا «الوجوه البيضاء»، و»الجبل الصغير»، ومن ثم يمكن اعتباره صوتا رائدا فى خلق هذا المسار السردى وتوسيع آفاقه.
وإلى جانبه ظهرت أصوات أخرى، قاربت موضوع الحرب بحساسيات أخرى تركز على الهامش، وتعبر عن أمور وجودية وثيقة الصلة بالآثار النفسية للحرب، التى أوجدت من بين ما أوجدت أجواء عدمية تستخف بفكرة الحياة، لأن الموت أصبح حاضرا فى التفاصيل، وهو ما انعكس فى أعمال رشيد الضعيف «فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم»، أو حسن داوود فى «بناية ماتيلدا»، ثم تجلى لاحقا فى أعمال أخرى لجبور دويهى ومنها «شريد المنازل»، أو «طبع فى بيروت»، و»حى الأمريكان».
وبرز تيار آخر يعيد أسباب الحرب، ويتقصى حولها فى التاريخ اللبنانى كما فعل ربيع جابر فى أعماله الملحمية «بيروت مدينة العالم»، أو «أمريكا» ثم «دروز بلجراد»، ورشيد الضعيف فى عمله المهم «تبليط البحر»، وهناك روايات عبرت عن المكان كما فى «بناية ماتيلدا»، لحسن داوود، أو «مستر نون» لنجوى بركات، وهى روايات تنظر إلى مكان آخر أفرزه واقع ما بعد الحرب، خلخل لدى القارىء الصورة الأيقونية عن بيروت الكارت بوستال، وهناك أعمال أخرى كانت تركز على خصوصية الجنوب اللبنانى، كما لدى علوية صبح، وقصص بسمة الخطيب، وروايات محمد أبى سمرا .
غير أن الجانب الأهم فى تقصى آثار الحرب، على الأدب اللبنانى، كونها أدت إلى ظهور مجموعة مهمة من الروائيات، اللواتى كانت أعمالهن الروائية أقرب لوثائق إنسانية، عن آثر الحرب فى تشظى الروح اللبنانية وتشاركت أجيال مختلفة من الكاتبات مهمة التعبير عن هذا الأثر، فإلى جوار أميلى نصرالله، وكتابها «تلك الذكريات»، ظهرت حنان الشيخ وروايتها البديعة «حكاية زهرة»، و«بريد بيروت»، التى عكست حالة التيه فى المدينة، وكتبت ليلى عسيران «الاستراحة» ونازك يارد «الصدى المخنوق»، ثم برزت هدى بركات بأعمالها الفارقة ومنها «أهل الهوى» و«حجر الضحك»، وكذلك علوية صبح بأعمالها التى حققت نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا، بفضل تركيزها على مفهوم الحكاية، وما تهجس به النساء كما فى روايتيها «مريم الحكايا»، و»دنيا»، وكما تؤكد عريضى فى دراستها حول بيروت فى مرآة الحرب، فإن الرواية اللبنانية تحدت ثقافة النسيان، وخطابه اللذين تبنّتهما الدولة اللبنانية، بعد إعلان انتهاء الحرب الأهلية، وكرّستهما فى ممارساتها النيوليبرالية، وسياساتها الإعمارية لبيروت.
وقادت الرواية تيارا من الحنين يعمل على استعادة بيروت الذاكرة، والثورة والتعددية، فضلاً عن كونها بيروت الخراب والحطام والجراح، وهى أيضاً بيروت الرواية البديلة، التى تروى الأحداث والتفصيلات اليومية فى سِيَر حياة أناس عاديين، أو مهمشين. وانعكس هذا بقوة فى أعمال الأجيال الجديدة من الكتاب، من أمثال هلال شومان وربيع علم الدين، وأحمد محسن ومازن معروف، الذى ركز على فضاء المخيمات الفلسطينية بصورة رئيسية، كما فى « نكات للمسلحين»، التى تكشف الآثار النفسية لذاكرة الحرب، ورسوخها فى الأجيال التى اختبرت آثارها الممتدة إلى الآن، فما الذى يمكن للبنانى أن يكتبه فى الحرب الجديدة بعدما استهلكته الحرب الأهلية تماما، وملأت ذاكرته بالألم والخسارات؟!