نتعامل مع منظومة الصحة ككيانٍ متكاملٍ يعود في الأصل لفائدة المواطن فردًا عاديًا أو مواطنًا يبحث عن الشفاء أوموظفًا ينتفع بالتأمين الصحي، وهذا موضوع مقالنا اليوم؛ حيث نتناول الجانب الآخر من المظلة العلاجية للمرضى؛ وهو نظام التأمين الصحي المعمول به قَبل تطبيق نظام التأمين الصحي الشامل الذي بدأ تطبيقه في بعض المحافظات، وأحدث نجاحًا وسنتحدث عنه لاحقًا.
وفي البداية لابد أن نعترف أن تجربة التأمين الصحي كانت متميزة؛ والتي بدأت بمصر عام 1964 م، حينما تم تطبيق هذا النظام على موظفي الحكومة والمؤسسات العامة، وكذلك العاملون بالقطاع العام والخاص، ثم بدأ تطبيقه على طلاب المدارس منذ رياض الأطفال عام 1992م، حتى تم ضم المواليد الجُدد عام 1997م لهذه المنظومة، إلا أنها في الفترة الأخيرة شهدت بعض الخلل في الخدمات المُقَدمة لأسبابٍ عديدة.
أولها : لابد أن نؤكد أن هذه الأسباب جاءت من حِقبٍ زمنية ماضية بسبب عدم تطوير الهيئة العامة للتأمين الصحي والمنشآت التابعة لها، وهذا ما أكده الدكتور محمد ضاحي رئيس الهيئة العامة للتأمين الصحي، بأن منشآت التأمين الصحي كلها قديمة وتحتاج إلى التطوير، وهو ما يتطلب دعم الخطة الاستثمارية للهيئة العامة للتأمين الصحي، الأمر الذي جعل الدولة تقدم زيادة في الموازنة العامة للهيئة العامة للتأمين الصحي؛ حيث إن إجمالي المخصص لمشروع الموازنة للسنة المالية الجديدة 2024/2025، هو 42.5 مليار جنيه مقابل 35 مليار جنيه العام المالي الحالي بزيادة 18.4% في محاولة لتدارك ذلك، ولكننا لابد أن نؤكد أن زيادة عدد المنتفعين بهذه المنظومة والذين وصل عددهم إلى 69 مليون منتفع عام 2024 مقارنة بـ24 مليونًا عام 2014م، علاوةً على تقديم نفس الخدمات العلاجية لـ8,5 مليون مواطن مُدرَجين ببرنامج (تكافل وكرامة) أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى زيادة أعباء نظام التأمين الصحي وعدم قدرته على القيام بدوره، بالإضافة إلى وجود عجز في الأطباء، خاصة في التخصصات الحرجة في ظل الخدمات التي تقدمها الهيئة العامة للتأمين الصحي للمرضى من خلال 23 فرعًا للهيئة و36 مستشفىً و367 عيادةً شاملةً و38 لجنةً عامة و1673 مستشفىً ومراكز متعاقدة، وهذا يؤكد انتباه الدولة والقيادة السياسية لهذا الأمر؛ حيث تم تطوير 16 منشأةً طبيةً تابعةً للهيئة العامة للتأمين الصحي ما بين تطوير جزئي وكلي، بالإضافة لإنشاء مستشفى العاصمة الإدارية الجديدة بطاقة 350 سريرًا ومستشفىً بأرض نادي الشمس بطاقة 400 سرير، وهذا ما أكده الدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان.
ولا يستطيع أحدٌ أن يقلل من أهمية التأمين الصحي في حياة المرضي، ولا أن يغض الطرف عن الجهد المبذول في هذا القطاع؛ لأنه يمثل طوق النجاة للملايين من المرضى، خاصةً الذين لا يستطيعون تحمل نفقات العلاج الخاص في ظل الزيادة الكبيرة في أسعار الخدمات الطبية المقدمة، ولكنه ينبغي للهيئة العامة للتأمين الصحي أن تستمر في خطتها الحالية للتطوير الشامل، ورفع كفاءة منشآتها والخدمات التي تقدمها، والقضاء على كافة أوجه الخلل، وذلك بالتوازي مع تطبيق مراحل نظام التأمين الصحي الشامل لضمان نظام علاجي في الخدمة الطبية المقدمة للمواطن، كما يقال: "الغفير" زي "الوزير".
يجدر الإشارة إلى أننا بحاجة ملحة لزيادة عدد الأطباء بالتأمين الصحي مع ضرورة تعديل لائحة الأجور للمتعاقدين منهم، حتى يحصلوا على مقابل مجزٍ مقابل عملهم، ويجعل هذا الأمر حالة من الإقبال من جانب الأطباء على التعاقد مع الهيئة العامة للتأمين الصحي، وحل مشكلة عجز الأطباء داخل عيادات التأمين الصحي يأتي بالتعاقد مع من هم فوق سن المعاش بمقابل "مجزي" دون وضع حد للسن ما دام الطبيب قادرًا على العطاء؛ لأنهم أهل خبرة.
ومن الممكن لهيئة التأمين الصحي الاسترشاد بلائحة أمانة المراكز الطبية المتخصصة، والتي تستعين بأساتذة الجامعات والكوادر الطبية المتميزة للعمل بها؛ لتخفيف الزحام وزيادة عدد المنافذ والعيادات ورفع الخدمات المقدمة للمواطن وتدريب الكوادر الطبية.
كما أنه لابد من زيادة عدد المراكز والمستشفيات المتخصصة المتعاقد معها من قبل هيئة التأمين الصحي، والتي تقدم خدمة طبية مميزة لمرضى التأمين مع ضرورة المتابعة والمرور على هذه المراكز والمستشفيات؛ للتأكد من الخدمات المقدمة للمرضي، وعدم تحميلهم أي أعباء مالية دون وجه حق، خاصة أن هذا يحدث من قبل بعض المراكز والمستشفيات الخاصة المتعاقد معها تجاه المرضى.
حقيقة هناك جهود مبذولة من قبل وزارة الصحة والسكان برئاسة الدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان، والهيئة العامة للتأمين الصحي، برئاسة الدكتور محمد ضاحي رئيس الهيئة؛ للارتقاء بمستوى الخدمات العلاجية، وآخرها بدء العمل بمنظومة العيادات المسائية في 21 عيادة خارجية بالهيئة العامة للتأمين الصحي في 7 محافظات كمرحلة أولى، مع إتاحة الخدمة لغير المنتفعين بالتأمين الصحي بأسعار رمزية، ونتمنى تعميم التجربة لسهولة حصول المريض على الخدمة الطبية.
كما أكد مستشفى العاصمة الإدارية الجديدة، ومستوى الخدمة الطبية الفائقة المقدمة به، قدرة الهيئة العامة للتأمين الصحي على الارتقاء بالخدمات الصحية المتعددة حال توافر الإمكانات؛ مما أدى إلى طلب العديد من الهيئات والمؤسسات والنقابات التعاقد مع الهيئة العامة للتأمين الصحي؛ لحصول منتسبيها على الخدمات الطبية بها، وآخرها نقابة الصحفيين.. وحتى لا يشعر المواطن بتفاوت الخدمات العلاجية المقدمة في النظم العلاجية المختلفة؛ سواء نظام العلاج على نفقة الدولة، أو التأمين الصحي الحالي، أو منظومة التأمين الصحي الشامل المطبق ببعض المحافظات حتى الآن، يجب على الهيئة العامة للتأمين الصحي استمرار العمل على رفع كفاءة النظام العلاجي الذي تقدمه، وتطوير ورفع كفاءة الخدمات المقدمة، والقضاء على البيروقراطية في الدائرة الورقية، خاصة لمرضى الأمراض المزمنة؛ لإنهاء الإجراءات بسرعة للحصول على الخدمات الطبية التي يحتاجها المريض، خاصة أن معظم المنتفعين من هذا النظام محالون إلى التقاعد وتقدموا في العمر، وأصابتهم أمراض الشيخوخة.
حقيقة لا ينكرها أحد أن الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ توليه المسئولية يعمل بجد؛ لضمان حصول المصريين على نظام واضح للرعاية الصحية من جميع الأمراض والوقاية منها، وذلك بكل عزة وكرامة مع العمل على توفير الأدوية والمستلزمات الطبية والقضاء على قوائم الانتظار، وإطلاق المبادرات الرئاسية الصحية المتعددة للارتقاء بمستوى الخدمات الطبية، مع توحيد مستوى العلاج بالمستشفيات لتصبح على درجة عالية من الكفاءة.
تجدر الإشارة إلى أن الحصول على الدواء داخل التأمين الصحي وعيادات الكشف، خلال الفترة الماضية، أصبح معاناة؛ نظرًا للنقص الموجود بالأدوية، وطريقة تعامل الصيدليات الخاصة مع المرضي، والتي تصرف الدواء غير الموجود بصيدليات عيادات التأمين الصحي؛ مما يتطلب ضرورة وجود صيدليات خاصة مملوكة للهيئة العامة للتأمين الصحي؛ حتي يشعر المواطن بالراحة عند صرفه للدواء، وأن يجده ولا يعاني من نقصه في حال عدم توافره بالصيدليات الموجودة داخل عيادات التأمين الصحي، وألا يقع فريسة لفكر "البدائل"؛ أي إعطاؤه دواءً بديلًا حتى تحصل الصيدليات الخاصة على فارق السعر على حساب المريض؛ لأنها تحاسب الهيئة العامة للتأمين الصحي على "الروشتات" المكتوبة، وليس المنصرف الحقيقي؛ مما يجعلها تحقق أرباحًا طائلة.
واللافت للنظر أنه في الفترة الأخيرة نجحت إدارة الحوكمة، التي أنشئت مؤخرًا، في ضبط العديد من الأمور، ومراقبة العمل داخل منظومة التأمين الصحي؛ لذا لابد من التوسع في إدارة الحوكمة، وتفعيل دورها في المراقبة، وعمل التقارير واتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه أي قصور وخلل في الخدمات المقدمة للمواطن، وآلية العمل مع التوسع في بناء المستشفيات التابعة لهيئة التأمين الصحي، مع تطوير الموجود، وهو أمر تحرص عليه الدولة والقيادة السياسية، علاوة على زيادة التعاقدات الجديدة مع المستشفيات والمراكز الخاصة لخدمة الملايين من المرضى، مع استمرار رفع كفاءة العيادات الشاملة.
وإننا في الواقع بحاجة مُلحةٍ وسريعةٍ للعمل على تلبية احتياجات مريض التأمين الصحي، وضرورة معرفة ماذا يريد المريض من التأمين الصحي.
والإجابة بكل بساطةٍ شديدة، أنه يريد أن يَكفل له هذا النظام العلاج والدواء المناسب، مع القضاء على كل صور الزحام ونقص الأطباء والدواء، وعدم الوقوف في طوابير الانتظار لساعات أو فترات طويلة؛ للحصول على الخدمة الطبية؛ لأن أسوأ ما يواجه الإنسان في حياته أن يمرض، ثم لا يجد الإمكانات المادية التي تساعده على تلقي العلاج المناسب.
ولا ينكر أحدٌ أن هناك تركة ثقيلة ورثتها الهيئة العامة للتأمين الصحي، ولكن ما حدث من تطوير ونقلةٍ نوعيةٍ في الخدمات خلال الفترة الماضية هو أمرٌ محمودٌ للغاية، ويحسب للإدارات المتعاقبة والحالية، والممثلة في شخص الدكتور المجتهد محمد ضاحي رئيس الهيئة العامة للتأمين الصحي، ولكن علينا أن نستمر في هذا الأمر، مع الأخذ في الاعتبار شكاوى المستفيدين، ووضع جدول زمني للتغلب على المعوقات؛ لأن نظام التأمين الصحي هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن المنتفعين، وغالبيتهم من محدودي الدخل وكبار السن، من مواجهة الأمراض وتلقي العلاج، في ظل الدعم والاهتمام الشديدين من جانب الدولة؛ بالوصول لخدمة طبية ونظام علاجي يرتقي إلى أفضل النظم العالمية على الرغم من الظروف الراهنة المحيطة، والمتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية الصعبة، ويكون نظام التأمين الصحي طريقًا ممهدًا لتعميم تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل، ويكون بمثابة طوق نجاة للمرضى، ونقلة حضارية اقتصادية مجتمعية للقيادة السياسية والقائمين على المنظومة الصحية بمصر..
وهذا هو محور حديثنا القادم بمشيئة الله تعالى..