تعطلت حكومة إشارة المرور الألمانية فجأة، فاضطربت الخريطة السياسية في ألمانيا كلها، فبعد ساعات قليلة من تهنئة المستشار الألمانى أولاف شولتس الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب مساء الأربعاء الماضى، انهارت حكومة ائتلاف إشارة المرور في ألمانيا.
موضوعات مقترحة
فقد طلب المستشار شولتس من الرئيس الألمانى إقالة وزير المالية في الحكومة الائتلافية كريستيان ليندنرالمنتمى إلى الحزب الليبرإلى المشارك في حكومة ائتلاف إشارة المرور، وذلك عقب انتهاء اجتماع ثلاثى كان يجمع بينهما مع وزير الاقتصاد روبرت هابيك المنتمى إلى حزب الخضر لمناقشة عدد من الملفات الاقتصادية على رأسها مشروع ميزانية 2025.
ثم توالت الأحداث متسارعة ليلا، إذ تمت إقالة الوزير، وتقدم وزيران آخران من الحزب الليبرإلى باستقالتيهما تضامنا مع وزير المالية، وقبلت الاستقالتان، وتم إسناد مهام الوزراء الثلاثة إلى وزراء آخرين، كل هذا ربما حدث في أقل من 24 ساعة، وفجأة انهار الائتلاف الحكومى الذى يحكم ألمانيا منذ 2021 قبل انتهاء فترته الدستورية التي تنتهى في سبتمبر 2025، لتواجه ألمانيا مرحلة اضطراب سياسى قلما تعرضت لها على مدى 75 عاما.
أزمة اقتصادية وسياسية طاحنة
لم ينتظر المستشار شولتس طويلا، ليخرج مخاطبا الشعب الألمانى معلنا أسباب إقالته لوزير المالية والتي أوضح فيها أنه ضاق ذرعا ونفد صبره من مناورات وزير المالية التي حاول فيها فرض أجندة حزبه على حساب مصلحة ألمانيا الداخلية والدولية وأمنها القومى، وأنه كمستشار لألمانيا تفرض عليه أمانة المسؤولية إعلاء مصلحة الوطن وأمنه فوق أية مناورات أو مصالح حزبية ضيقة، مشيرا إلى أن نتائج الانتخابات الأمريكية تضيف تحديات جديدة على ألمانيا مع ما يواجهه الاقتصاد الألمانى من مشكلات صعبة، وقال إنه سيطرح الثقة في حكومته على البرلمان الاتحادى في جلسة خاصة تعقد في 15 يناير المقبل تمهيدا لإجراء انتخابات عامة مبكرة في مارس 2025.
واتهم وزير المالية المقال المستشار شولتس وحزبه وحزب الخضر بالفشل في وضع حلول للاقتصاد المنهار، وبأنهما رفضا خطته لإنقاذ الاقتصاد، فيما اقتنص الفرصة زعيم المعارضة رئيس الاتحاد المسيحى فريدريش ميرتس للإجهاز على حكومة إشارة المرور، مطالبا هو وشريكه البافارى بتقديم استقالة الحكومة فورا، زاعما أن تطورات الأحداث عالميا وداخليا تحتم الإسراع في إجراء انتخابات مبكرة بأسرع ما يمكن لتشكيل حكومة قوية قادرة على التعامل مع الملفات الصعبة.
وبدوره وفى إطار مهامه الدستورية ناشد الرئيس الألمانى فرانك شتاينماير الساسة الألمان بالهدوء وإعلاء مصلحة الوطن والتوصل لحلول وسط، وحاول أن يطمئن الشعب الألمانى قائلا «إن ألمانيا بلد ديمقراطى ولن تؤثر الخلافات أو المناورات الحزبية على استقرار البلاد وأن الدستور الألمانى وضع الضوابط لكل الاحتمالات»، مع أنه أشار إلى أن انهيار الائتلاف الحاكم قبل فترته الدستورية من الحالات النادرة في الحياة السياسية الألمانية.
وغصت قنوات التلفزة الألمانية بالمحللين والخبراء، ادعى بعضهم أن الخلافات العميقة بين المستشار شولتس ووزير المالية المقال حول مشروع موازنة الدولة 2025 هي السبب الرئيس لانهيار الائتلاف الحاكم، حيث يتبنى وزير المالية المقال مبدأ "فرملة الدين العام" وهو التزام مقدس في ثقافة حزبه الليبرالى يضع حدا للدين العام، لا يمكن لأية حكومة تجاوزه مما يدفع إلى اللجوء لتخفيض النفقات العامة لتضييق فجوة عجز الموازنة، وظلت الحكومات الألمانية المتعاقبة ملتزمة إلى حد ما بهذا المبدأ، ولكن نظرا لحالة الركود والانكماش في الاقتصاد الألمانى حاليا فإن الالتزام بهذا المبدأ سيأتى حتما على حساب حزمة المساعدات الاجتماعية للطبقات العاملة ومحدودة الدخل وحماية هؤلاء ومساعدتهم، وهو ما يعتبر مبدأ مقدس أيضا في ثقافة وأجندة حزب المستشار شولتس منذ تأسيسه - الحزب الديمقراطى الاشتراكى - بل والتزام دستورى ينفرد به الدستور الألمانى.
ولا يخفى تضارب البرامج الحزبية لكل من حزب شولتس وكريستيان ليندنر وحزبه على أحد منذ تشكيل الحكومة، فحزب ليندنر يمثل مصالح رجال الأعمال وملاك الشركات، بينما على النقيض من ذلك حزب المستشار شولتس الاشتراكى المستمسك بالرأسمالية الاجتماعية التي تضمن حقوق الطبقات العاملة والخدمات الاجتماعية العامة، ومع هذا استمر الائتلاف حتى الانهيار المفاجئ منذ أيام، ولذا يبقى السؤال الكبير لماذا الآن؟.
وتظهر استطلاعات الرأي لقياس شعبية الأحزاب والنخب السياسية المتتابعة منذ أكثر من 6 شهور- وآخرها أمس الجمعة - تآكل شعبية أحزاب الائتلاف الحاكم وتدهورها إلى مستوى غير مسبوق خاصة حزب المستشار شولتس الاشتراكى الديمقراطى (18 %) أو أقل من ذلك، فى مقابل صعود الاتحاد المسيحى إلى حوإلى 33 %، أما الحزب اليمينى الشعبوى "البديل من أجل ألمانيا" فقد أصبح ثانى أكثر الأحزاب شعبية رغم أجندته الشعبوية المتطرفة (من 18 % إلى 21% )، ولكن حزب وزير المالية المقال كريستيان ليندنر طبقا لبعض استطلاعات الرأي قد لا يتمكن من عبور عتبة البرلمان وهى نسبة 5%، بينما تتفاوت حظوظ حزب الخضر ما بين 12 و 16 %، ولهذا فإن زعيم المعارضة فريدريش ميرتس يحاول منذ فترة إسقاط حكومة شولتس مستغلا حالة السخط الشعبى الناجم عن التدهور الاقتصادى، بينما حاول- في اللحظات الأخيرة - وزير المالية كريستيان ليندنر الظهور كمنقذ للاقتصاد الألمانى بورقته التي أعدها كخطة إنقاذ للشركات الألمانية يتبناها مشروع موازنة 2025، ولما لم يتم الاتفاق حولها مع المستشار شولتس وحزب الخضر الشريك الثالث في الائتلاف الحاكم، عجل المستشار شولتس بإقالته في حركة استباقية قبل أن يعلن هو استقالته من الحكومة مفوتا عليه لعب أي دور بطولى لتحسين صورته وحزبه لدى الرأي العام !!
الرهان على الزمن
الصراع الجزبى في ألمانيا الآن يركز على عامل الوقت، شولتس سيلقى خطابا مطولا أمام البرلمان الأربعاء المقبل سيحاول فيه استمالة بعض الأعضاء من كل الأطياف للاصطفاف معه في تمرير بعض القوانين العاجلة التي لا تحتمل انتظار الحكومة الجديدة أو تمس الحياة اليومية لغالبية المواطنين، أما زعيم المعارضة ميرتس المشتاق إلى منصب المستشار الجديد - ومعه أحزاب المعارضة - مدفوعا بنتائج استطلاعات الرأي التي تضعه في المركز الأول، فإنه يضغط بكل الأساليب والمناورات لتعجيل طرح الثقة في الحكومة على البرلمان – بوندستاج – في جلسة الأربعاء المقبل، وحدد يوم 19 يناير المقبل لإجراء الانتخابات قبل يوم واحد من تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية !!
وطبقا للدستور الألمانى لا يستطيع أحد أن يزيح المستشار الألمانى عن منصبه، رغما عنه، قبل نهاية فترته الدستورية حتى لو رغب في البقاء على رأس حكومة أقلية، لكن هذا الخيار من الصعب على المستشار شولتس قبوله لأن الحكومة في هذه الحالة ستكون كالبطة العرجاء غير قادرة على تمرير أية قوانين بما فيها الموازنة العامة للدولة، وتتعطل المصالح الحكومية ويزداد السخط والغضب الشعبى على الحزب الاشتراكى، وهذا عكس ما يستهدفه شولتس من إطالة عمر حكومته على أمل استعادة ولو بعض من شعبيته المفقودة قبل إجراء الانتخابات، ولذا فإن شولتس أشار مساء اليوم أنه منفتح على تبكير موعد طرح التقة في الحكومة وبالتالي موعد الانتخابات مؤكدا أن هذا مرهون بموافقة أحزاب المعارضة خاصة الاتحاد المسيحى على تمرير حزمة القوانين المستعجلة بما فيها الموازنة العامة للدولة.
ولكن لماذا هذا الصراع بين ميرتس وشولتس على هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبيا؟ هل مدة الشهرين يمكن أن تغير شيئا في الرأي العام الألمانى مما يؤثر على نتائج الانتخابات ؟
مناورات اللحظات الحاسمة
نظريا وعمليا هذا ممكن، فالمستشار شولتس رغم هدوئه وبساطته لا تنقصه الحنكة ولا الدهاء السياسى، مما يجعله قادرا على المناورة في هذه الفترة على الأقل لتحسين شعبية حزبه لدى لناخب الألمانى خاصة ان المزاج العام في الشارع الألمانى متقلب ويتغير بسرعة، وقد تحوله من اليمين إلى اليسار أحداث محلية أو دولية أو حتى مجرد سيول غير متوقعة أو ضحكة عريضة عارضة لسياسى أو قيادات حزبية!!
هذا ما حدث فعلا في انتخابات 2021 والتي كانت استطلاعات الرأي ترشح حزب المستشارة ميركل – الاتحاد المسيحى - والذى يتزعمه حاليا زعيم المعارضة ميرتس للفوز بالأغلبية النسبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة، وكان أرمين لاشيت هو مرشح الحزب لمنصب المستشار، ولكن فجأة وقبل أيام قليلة من موعد الانتخابات ضربت سيول شديدة غير متوقعة بعض مناطق ولاية شمال الراين التي كان لاشيت حاكما لها، وفى خلال تفقده لبعض المناطق المنكوبة التقط له مصورو قنوات التلفزة المصاحبة له ضحكة عريضة عارضة لبضع ثوان فقط، هذه السيول الطارئة والضحكة العارضة أطاحت به إلى زوايا النسيان السياسى، ودفعت بحزبه إلى مقاعد المعارضة ورفعت بدلا منه المستشار الحالى شولتس وحزبه الاشتراكى إلى سدة الحكم !! ولدى شولتس بعض الأوراق القوية يمكن اللعب بها خلال فترة الشهرين لتعديل موازين القوى الحزبية مستندا إلى حزبه المتماسك العريق، ولديه ورقة قوية أخرى رابحة يمكن الرهان عليها في تحقيق مزيد من المكاسب وهى بوريس بيوريستس وزير الدفاع.. شخصية محبوبة وتحظى بقبول شعبى كبير، بل إنه جاء في أحد استطلاعات الرأي في المرتبة الثانية لأكثر الشخصيات شعبية في ألمانيا، في المقابل فإن زعيم الاتحاد المسيحى ميرتس – تم تحجيمه خلال الفترة الأخيرة للمستشارة ميركل من داخل حزبه بسبب محاولاته لسحب الحزب إلى أقصى اليمين، ولا يزال يوجد فصيل مناوئ له من داخل حزبه، وتبقى ورقة اخرى لدى شولتس وحزبه وهى الورقة نفسها التي استغلها الاتحاد المسيحى لإضعاف شعبية الحزب الاشتراكى وهى العزف على مخاوف بعض الطبقات ومكونات المجتمع وفى هذه الحالة ستكون مخاوف المجنسين الجدد أو حاملو الجنسية الألمانية من أصول أجنبية أو الخوف من عودة اليمين المتطرف، كل هذا يكشف سر تمسك المستشار شولتس بموعد إجراء الانتخابات في مارس 2025.
ولكن حتى مع التسليم بحصول ميرتس والاتحاد المسيحى على الأغلبية النسبية في الانتخابات المقبلة - لأن هذا هو الأرجح حتى الآن أيا كان موعدها يناير أو مارس - فمع من سيشكل ائتلافه الحكومى لحكم ألمانيا في المرحلة المقبلة ؟ مع الحزب اليمينى الشعبوى – البديل من أجل ألمانيا - أم يعود مرغما وصاغرا إلى غريمه اللدود الاشتراكى الديمقراطى في الائتلاف الكبير مرة أخرى أم مع حزب الخضر الذى كافح طويلا من أجل إغلاق محطات الكهرباء النووية في ألمانيا؟! فى أي من هذه الخيارات يتحتم على ميرتس أن يمحو بالممحاة أكثر من نصف برنامجه الانتخابى ويتخلى عن نصف وعوده لقاعدته الحزبية وناخبيه.. أما لو غامر ولجأ إلى الاختيار الأول (اليمين الشعبوى) فإنه سيكون كمن قام بانقلاب سياسى بشكل ديمقراطى، يعود بالذاكرة الجمعية لألمانيا إلى ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضى وما تلاه من تداعيات لا تزال ألمانيا تدفع ثمنها حتى الآن.. وهذا ما لا تتمناه الغالبية العظمى في ألمانيا.