- الغضب يندلع في صيدا باشتباكات بين الجيش والفدائيين المدعومين من الأحزاب القومية واليسارية
موضوعات مقترحة
- الحركة الوطنية تشن «معركة الفنادق» لإزاحة ميليشيا الكتائب من آخر معاقلها.. وميليشيا «الكتائب» ترتكب مجزرة في بيروت الشرقية
- الجبهة اللبنانية تطالب بالتدخل العسكري السوري.. والأسد يشن هجوما على الحركة الوطنية ومنظمة التحرير واصفا قادتها بالمجرمين
- التورط المتزايد لمنظمة التحرير الفلسطينية في القتال أدى إلى تشجيع أطراف خارجية على التدخل
- الكتائبيون يقاومون الإصلاح بواسطة السلاح.. بيار الجميل يوافق بعد 4 أيام من القتال على تسليم اثنين من عناصره
- اتفاق الطائف مثل بداية النهاية للقتال لتبدأ لجنة جامعة الدول العربية فى صياغة حلول للنزاع
- فى مارس 1991 سن البرلمان قانونا للعفو عن جميع مرتكبي الجرائم السياسية
- عندما انتخب بشير الجميل رئيسا للجمهورية فى سبتمبر 1982 علق أحد مستشاريه بأن هذا هو «أطول انقلاب في تاريخ لبنان»
لم يشارك لبنان فى حرب أكتوبر 1973 غير أن «البقاع» تحول إلى ممر، استخدمه الطيران الحربى الإسرائيلى لقصف دمشق ومدن الداخل السورى، شكلت الحرب منعطفا كبيرا فى العلاقات السورية - اللبنانية، إذ وفرت فرصة لانعقاد صداقة جديدة بين الرئيسين السورى واللبنانى.
أسهم إنشاء إسرائيل فى نزوح مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، خلال عامى 1948 و 1967 ما لعب دورا فى تغيير التوازن الديموجرافى لصالح السكان المسلمين، وكان للحرب الباردة تأثير قوى على لبنان، الذى يرتبط ارتباطا وثيقا بحالة الاستقطاب التى سبقت الأزمة السياسية فى عام 1958، منذ أن انحاز الموارنة إلى جانب الغرب، فى حين انحازت المجموعات اليسارية والعربية إلى جانب الدول العربية المنحازة إلى الاتحاد السوفيتى.
يختلف كثيرون حول بداية الحرب الأهلية فى لبنان، لكنهم يتفقون على أنها بدأت فى 13 أبريل عام 1975 حيث جرت محاولة فاشلة لاغتيال الزعيم المارونى بيار الجميل، وحدث توقف قصير للمعارك عام 1976 لانعقاد القمة العربية، ثم عاد الصراع والقتال فى جنوب لبنان بشكل أساسى.
سبقت أحداث دامية هيأت للحرب، ففى عام 1969 اقتتل الجيش اللبنانى مع المسلحين الفلسطينيين، ما أدى إلى الاعتراف بحق الفلسطينيين، فى امتلاك السلاح على الأرض اللبنانية، من خلال ما عرف باتفاق القاهرة، كما أعطى الاتفاق لهم حق السيطرة على بعض أجزاء من أرض الجنوب، ما أثار سخط اليمين اللبنانى. وحدث انقسام بشأن الوجود الفلسطينى المسلح، وبدأ عام 1975 بإضراب عام فى الجنوب، وتظاهرات فى بيروت حول هذا الموضوع، وبعد أسابيع أعلن بيار الجميل أن اللبنانيين منقسمون بصدد الوجود الفلسطينى، والعمليات العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مثيرا مسألة وجود حكومتين وجيشين، داعيا الرئيس إلى تنظيم استفتاء عام، حول وجود الفدائيين على الأراضى اللبنانية.
فى 26 فبراير 1975 انطلقت تظاهرة للصيادين فى صيدا، وأطلق الجيش النار عليها، فسقط عدد من القتلى والجرحى، بينهم النائب الناصرى معروف سعد، الذى كان على رأس التظاهرة، وغادر الحياة بعد أيام فى المستشفى، ورفض الجيش التحقيق فى الحادث، فاندلع الغضب فى صيدا على شكل اشتباكات بين الجيش والفدائيين المدعومين من الأحزاب القومية واليسارية، رد عليها حزب الكتائب بتسيير تظاهرة مضادة، تضامنا مع الجيش.
فى اليوم التالى، أطلقت سيارة مجهولة النار على تجمع لحزب الكتائب، عند كنيسة عين الرمانة، وجرحت عددا من الأهالى، رد الكتائبيون على ذلك بعد ساعات بمجزرة فى «باص» متجه إلى مخيم تل الزعتر فقتلوا 21 فلسطينيا، وانفجر القتال انطلاقا من خط التماس بين الشياح وعين الرمانة، وبدأت حرب استمرت لخمس عشرة سنة.
أدى التورط المتزايد لمنظمة التحرير الفلسطينية فى القتال، إلى تشجيع أطراف خارجية على التدخل، خصوصا سوريا وإسرائيل، وشهدت الفترة الأولى من الحرب عمليتين متلازمتين: لعبة عزل يلعبها الفريقان، أحدهما ضد الآخر، وحوار بالسلاح لفرض أحد مشروعين: مشروع الأمن، بمعنى تسليم الأمن للجيش، ومشروع الإصلاحات السياسية.
قاوم الكتائبيون الإصلاحات بواسطة السلاح، وبعد 4 أيام من القتال العنيف، وافق بيار الجميل على تسليم اثنين من عناصره المتهمة بالقتل فى عين الرمانة، وأطلق فى الوقت ذاته هجوما عنيفا ضد اليسار، اتهمه فيه بتلقى أموال من جهات خارجية، لتدمير لبنان والمقاومة الفلسطينية، وردت الحركة الوطنية بالدعوة إلى عزل الحزب، ومنع نشاطاته، وطرد وزرائه من الحكومة، ولم يؤد ذلك إلا إلى زيادة نفوذ حزب بيار الجميل فى أوساط الجمهور المسيحى.
استقال الوزراء المسيحيون تضامنا مع حزب الكتائب، فقدم رشيد الصلح استقالة حكومته فى خطاب، يتهم فيه الكتائب خلال جلسة صاخبة فى مجلس النواب، ومع ذلك لم يتوقف حوار النيران، طرف يستخدم القتال من أجل إنزال الجيش لفرض الأمن والنظام، وطرف آخر يستخدم الضغط العسكرى لفرض الإصلاحات، ودعت الحركة الوطنية إلى تظاهرة فى طرابلس، فاشتعلت جولة جديدة من القتال فى بيروت هذه المرة، حيث بادر الحزب إلى قصف وسط المدينة، فى الوقت الذى أعلن فيه الناطق بلسانه أن القتال لن يتوقف إلا بعد انتشار الجيش.
أقر وقف جديد لإطلاق النار، وتشكيل «لجنة الحوار الوطني» وهى مكونة من 20 شخصية، للبحث فى الإصلاحات، ومع أن القتال لم يتوقف، فإن الحوار أشاع جوا من الأمل، قدمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى لجنة الحوار الوطنى مذكرة، تكرر فيها احترامها للسيادة اللبنانية، ورفض أى وطن بديل للفلسطينيين، وناشدها الإمام موسى الصدر العودة إلى التعايش بين العائلات الروحية.
غلب حوار السلاح مجددا، بعد إخفاق الحوار حول الإصلاح، كانت ميليشيا سليمان فرنجية ووزيره الأول كميل شمعون، تشارك فى القتال، بينما يسير الرجلان شئون الحكم، ويسيطران على الجيش، واعتصم رشيد كرامى فى مبنى رئاسة الحكومة فى بيروت الغربية، قبل أن يقرر تعليق نشاطات حكومته فى نوفمبر 1975 احتجاجا على تواطؤ الجيش، فى تفريغ شحنة سلاح جديدة للميليشيات المسيحية، وفى تلك الأثناء انتقلت الحركة الوطنية إلى الهجوم على محاور بيروت الغربية، وباتت مقتنعة باستحالة تحقيق الأمن مادام فرنجية فى السلطة.
معركة الفنادق
شنت الحركة الوطنية «معركة الفنادق» لإزاحة ميليشيا الكتائب من آخر معاقلها، فى حى مختلط، يتحكم فى الطريق المؤدى إلى المصرف المركزى، جاء الهجوم ردا على أحداث السبت الأسود، ففى السادس من ديسمبر، وبينما كان بيار الجميل وأعضاء مكتبه السياسى فى زيارة لدمشق، ارتكبت ميليشيا حزب الكتائب مجزرة بحق مسلمين فى بيروت الشرقية، بعد اكتشاف جثث لأربعة كتائبيين كانوا مفقودين، ذهب ضحية ذلك السبت الأسود نحو 200 مسلم معظمهم من عمال مرفأ بيروت.
صدمت الحرب الإمام موسى الصدر، وأزاحت عنه الأضواء، وهو من جهته رفض الانحياز إلى أى من الجهتين المتقاتلتين، وأعلن إضرابا عن الطعام، إلى أن تتشكل حكومة وحدة وطنية، ومع ذلك أعلن تأسيس «حركة أمل.. أفواج المقاومة اللبنانية» فى 6 يونيو 1975, ولم يمض وقت طويل، حتى كشف انفجار فى أحد معسكرات التدريب، التابعة لحركة فتح فى منطقة بعلبك، أن الإمام يمتلك هو أيضا ميليشيا مسلحة.
بعد جولات من القتال اتهم الكتائبيون الفلسطينيين بالتدخل فى شئون لبنان الداخلية، وبدأ بيار الجميل ينادى بتوزيع الفلسطينيين على الدول العربية المجاورة، واتهم المسلمين أيضا بإضعاف الدولة، ما أسهم فى تقسيم الجيش، تمردت الأغلبية فى البقاع والشمال والجنوب على القيادة، وهكذا نشأ «جيش لبنان العربي» بقيادة أحمد الخطيب، تدعمه حركة فتح، وتموله ليبيا، فاشتعل القتال على كل الجبهات.
الجنرال التليفزيونى
بينما أعلن عن وقف جديد لإطلاق النار، وبينما الأزمة مستمرة، استولى جنرال متقاعد على محطة التليفزيون الرسمية، فى مارس 1976, وأعلن عزل سليمان فرنجية، وانضمت وحدات من الجيش إليه، وعلى الرغم من أن «الجنرال التليفزيوني» افتقر إلى الوسائل لتنفيذ قراره، غير أنه نجح فى وضع استقالة الرئيس على جدول الأعمال.
فى تلك الأثناء التقى كمال جنبلاط الرئيس حافظ الأسد للمرة الأخيرة، ناشده تنحية فرنجية، وإلغاء الطائفية والإصلاح الانتخابى، قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كان محتوما أن ينتهى اللقاء بين الرجلين بقطيعة، خصوصا أن كلا منهما باح للآخر بدوافعه وأهدافه الحقيقية.
أوصل الأسد إلى الأمريكيين رسالة فحواها، أنه ينوى مد يد العون لمساعدة «إخوتنا» وأبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلى الأمريكيين أن القوات الإسرائيلية، سوف تحتل مواقع إستراتيجية على الأراضى اللبنانية (بأكبر قدر من الهدوء) فى حال تدخل عسكرى سورى، واقترح كيسنجر على الرئيس الأمريكى فورد إرسال مبعوث شخصى إلى لبنان، وفى الأول من أبريل كتب إلى كيسنجر أن المسيحيين، يريدون أن ينقذهم السوريون، داخل الجبهة اللبنانية، كان فرنجية والجميل قد انحازا لصالح التدخل العسكرى السورى، أما شمعون وشارل مالك فأرادا تدخلا عسكريا أمريكيا، تحت غطاء من الأمم المتحدة.
طلبت الجبهة اللبنانية التدخل العسكرى السورى، بعد فشلها فى إقناع إسرائيل بالتدخل عسكريا فى النزاع، وكانت هناك لقاءات بين الجميل وابنه بشير، وكميل شمعون وابنه دانى، مع بنيامين إليعازر، وديفيد كيمحى منسق النشاطات اللبنانية فى جهاز الموساد، ثم التقى الاثنان مع شيمون بيريز قبالة الشواطئ اللبنانية، وقرر الإسرائيليون بعدها تزويد الكتائب بالسلاح، وتدريب عناصر لهم.
ألقى الرئيس الأسد خطابا، شن فيه هجوما على الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، واصفا قادتها بالمجرمين، الذين يشترون ويبيعون فى السياسة والثورة، قبل أن يعلن تصميم بلاده على التدخل فى لبنان، وقبل هذا الخطاب بثلاثة أيام، دخلت وحدات من منظمة الصاعقة لبنان، من الحدود السورية، وباشرت رفع الحصار عن مدينة زحلة، وهو الحصار الذى فرضته المنظمة، فى الوقت ذاته ظهرت الدبابات السورية داخل الأراضى اللبنانية.
تدخلت سوريا وإسرائيل معا فى وقت متقارب، ولم يترك كيسنجر مجالا للشك فى تلاقى مصالح القوتين، فكتب فى مذكراته: «شجعنا إسرائيل أن تمد المسيحيين بالسلاح، حتى فى وقت كانت سوريا تعمل فيه مؤقتا على الأقل بصفتها (حاميتهم)» أكثر من ذلك كان لدى كيسنجر سبب، ليفرح بتغير الجبهات المدهش، الذى أنجزه، فسوريا الداعى الرئيسى لإشراك منظمة التحرير الفلسطينية، فى مفاوضات السلام (التى ترفضها الولايات المتحدة) تقاتل منظمة التحرير، أو تمتنع عن التدخل، بينما كانت الميليشيات المسيحية تحاصر المخيمات الفلسطينية، من جهة أخرى فإن الاتحاد السوفيتى، حليف سوريا الرئيسى بدأ الانقلاب على دمشق، بسبب الضغط السياسى والعسكرى، الذى تمارسه على الفلسطينيين.
فى الأول من يونيو أعلن الأسد أنه قرر الاستجابة لاستغاثات من قريتين مسيحيتين، تعرضتا لهجوم من وحدات «جيش لبنان العربي» وفى الوقت ذاته انعقد فى القاهرة اجتماع لجامعة الدول العربية، وقرر إرسال «قوات ردع عربية» إلى لبنان، تمهيدا لمنح التدخل العسكرى السورى شرعية عربية، وأعلنت القوات المشتركة للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية التعبئة العامة، ووضعت قواتها تحت إمرة واحدة لمجابهة التدخل السورى.
فى تلك الأثناء، جرت تصفية قوات الصاعقة وعناصر حزب البعث، وانتقلت حركة «أمل» إلى العمل السرى، وكانت أشهر القتال الثمانية بين ربيع وخريف 1976, هى أطول فترة من العمليات العسكرية المتواصلة، والمؤثرة فى مجرى الحرب، وواحدة من أشدها دمارا وفتكا، وفى ختام «حرب السنتين» اغتيل كمال جنبلاط أحد أبرز رموزها، وهو فى طريقه إلى بيروت يوم 16 أبريل عام 1977 , عقابا له على المغامرة، التى خاضها لتغيير النظام اللبنانى، وعلى معارضته التدخل السورى فى لبنان.
آخر سكين مطبخ
عندما انتخب بشير الجميل رئيسا للجمهورية فى سبتمبر 1982, علق أحد مستشاريه بأن هذا هو «أطول انقلاب فى تاريخ لبنان» ويمكن النظر إلى المرحلة الثانية من الحرب باعتبارها مسار هذا الانقلاب، فى إطار عملية السلام العربى - الإسرائيلى، لقد وصل الجميل إلى الرئاسة، بدعم أمريكى، وعلى متن الدبابات الإسرائيلية التى كانت تحتل لبنان آنذاك، وسقط قبل أيام من بدء ولايته.
كان أبرز آثار اتفاقية كامب ديفيد التى وقعها السادات، مع الإسرائيليين، هو التغير الذى طرأ على موقف دمشق من منظمة التحرير الفلسطينية، فعبد الحليم خدام قال يوما إن الجيش السورى سوف يجرد الفلسطينيين من سلاحهم، حتى آخر سكين مطبخ، وتنفس عرفات الصعداء إزاء الخطوات الإيجابية، التى اتخذتها سوريا تجاهه، بعد أن نجح فى تجاوز الهجمة السورية عليه، ومحاولات تغييره فى قيادة فتح ورئاسة منظمة التحرير.
مع تواصل الغارات الإسرائيلية على لبنان والمخيمات الفلسطينية، واستهداف المدنيين، ردت المقاومة الفلسطينية بقصف مكثف وعنيف على 33 مستوطنة، قرب الحدود اللبنانية، ما أدى إلى هروب آلاف المستوطنين، كما «هددت منظمة التحرير الفلسطينية بالتحول إلى حركة «إرهابية» تضع العالم كله على برميل من البارود، إذا تصاعدت الهجمات على المدنيين الفلسطينيين» ودفع القصف المدفعى المتواصل من قبل المقاومة رئيس وزراء دولة الاحتلال (بيجين) إلى طلب المساعدة من أمريكا والمجتمع الدولى للتوسط لدى منظمة التحرير، من أجل وقف إطلاق النار.
تحرير لبنان
«إسرائيل تخطط للغزو» كان أحد مانشيتات الصحافة اللبنانية، بعد تبنى «منظمة جبهة تحرير لبنان من الغرباء» محاولة اغتيال السفير الأمريكى فى بيروت فى عام 1980، المنظمة أنشأها رفائيل إيتان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلى، واستخدمها شارون لإجراء سلسلة من التفجيرات العشوائية، التى أسفرت عن مقتل مئات المدنيين فى مناطق مختلفة من لبنان.
كان الهدف من هذه الحملة «الإرهابية» الضخمة «زرع الفوضى» فى لبنان، الأمر الذى وفر ذريعة لإسرائيل لشن هجمات على منظمة التحرير، وغزو لبنان، وجرى وصف نشاطات «جبهة تحرير لبنان من الغرباء» فى كتاب، استند إلى روايات مباشرة من المسئولين الإسرائيليين، المشاركين فى العملية، أو الذين كانوا على علم بها فى ذلك الوقت.
على مدى سنوات قتل مئات المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وأصيب عدد أكبر بجروح، جراء انفجار عبوات ناسفة مخبأة فى سلال أو دراجات هوائية، أو فى سيارات أو شاحنات، وبعد كل هجوم، كان يتم إجراء اتصالات مع وسائل الإعلام، لإعلان المسئولية باسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء» وقد أصر المسئولون الفلسطينيون واللبنانيون مرارا على أن تلك «الجبهة» مجرد وهم، يهدف إلى إخفاء يد إسرائيل وحلفائها من اليمينيين.
كانت إسرائيل قد أعدت خطة الغزو، وتنتظر الذريعة لبدء التنفيذ، وفى 3 يونيو 1982 قامت منظمة أبو نضال بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلى فى لندن، فتحركت إسرائيل لغزو لبنان، وفى غضون أيام استولت على مدن الجنوب: صيدا وصور، لتدخل بيروت الشرقية، بدعم من القادة والميليشيات المارونية.
كانت إسرائيل قد صعدت من هجومها بإطلاق «عملية الليطاني» وفى مارس 1978، أنشأت الشريط الحدودى تحت سيطرة «جيش لبنان الحر» بقيادة سعد حداد، الذى موله وسلحه الجيش الإسرائيلى، وهكذا وضع إسحق رابين موضع التنفيذ تحذيره السابق، بأن إسرائيل سوف تحتل مواقع إستراتيجية على الأراضى اللبنانية (بأكبر قدر من الهدوء الممكن) فى حال التدخل العسكرى السوري.
لكن يبقى أن الحدث الرئيسى هو ما جرى فى الأول من سبتمبر 1982، حين زار بشير الجميل سرا (الرئيس اللبنانى المنتخب) منتجع ناتانيا الإسرائيلى بالجليل، والتقى مناحم بيجين، وبعد تذكيره بأن جهود إسرائيل هى التى أنقذت المسيحيين من الإبادة» توجه بيجين إلى الرئيس المنتخب قائلا «يا ابني» وطالبه بعقد معاهدة سلام بين البلدين، فطلب بشير إمهاله ستة أشهر، لكن بيجين كان يريدها فورا.
وافق بشير الجميل على اتفاق لتطبيع العلاقات بين البلدين، وغادر الاجتماع، وهو يشعر بالإهانة، خصوصا بعد تهديد بيجين باحتلال شريط حدودى، عمقه 50 كيلومترا، لكن الكارثة أن صحفيا إسرائيليا، قام بتسريب خبر الزيارة متعمدا، وعلى نحو مقصود.
لم يعش الجميل لينفذ أيا من تعهداته، فعشية 14 سبتمبر 1982، قبل أسبوع من خطاب القسم، انتشلت جثته من تحت ركام مركز حزب الكتائب فى الأشرفية، وقد دمرته عبوة ناسفة، جرى تفجيرها عن بعد، كانت الدوائر المسلمة تتخوف من علاقة بشير بإسرائيل، ودعمها له بالسلاح أثناء الحرب، وقبل أيام من الموعد المحدد لتسلمه الرئاسة، فجر عضو فى الحزب السورى القومى الاجتماعى مبنى حزب الكتائب فى بيروت الشرقية.
فى اليوم التالى دخلت القوات الإسرائيلية بيروت، بذريعة الحيلولة، دون وقوع حمام دم، حقيقة الأمر أن الجيش الإسرائيلى هو الذى نظم حمام الدم، ففى الأربعاء والخميس والجمعة من 15 إلى 17 سبتمبر عدة مئات من وحدات القوات النظامية الكتائبية ارتكبت، بمواكبة إسرائيلية، مجزرة، ذهب ضحيتها ما لا يقل عن ألف فلسطينى و100 لبنانى فى مخيمى صبرا وشاتيلا، دخل القتلة إلى المخيمين بواسطة القوات الإسرائيلية التى تحاصر المخيمات، وساعدت أيضا بإطلاق قنابل الإنارة فوق المخيمين، طوال الليل، وكان شارون قد زار لبنان للتعزية فى بشير الجميل، وأبلغ العائلة أن الفلسطينيين هم الذين اغتالوا بشير.
انتخب أمين الجميل لخلافة أخيه فى 21 سبتمبر 1982، فى ثكنة الجيش نفسها، التى انتخب فيها بشير، وبحماية الدبابات الإسرائيلية، وفى اليوم التالى غادر إلياس سركيس القصر الجمهورى، فى خروج كئيب لرئيس لبنانى، بدأ عهده باغتيال كمال جنبلاط، ودخول القوات السورية إلى بيروت، وها هو يختمه باغتيال بشير الجميل والقوات الإسرائيلية تحتل عاصمته.
بعد عام فى السلطة كان الرئيس الكتائبى قد خيب آمال جميع من أملوا فى أنه سيبنى الدولة، أو يقود البلد إلى سلام دائم وعادل، وبعد هدنة قصيرة مع نبيه برى انتقل «بري» إلى صفوف المعارضة، وعادت القوة متعددة الجنسيات إلى بيروت فى 24 سبتمبر 1982، مدفوعة بسخط الرأى العام العالمى، على ما جرى فى صبرا وشاتيلا من مذابح مروعة.
عشية 1983 انشطر لبنان إلى شطرين: شطر يقاوم الاحتلال الإسرائيلى بالسلاح، وشطر يفاوض إسرائيل على اتفاقية سلام، وفى هذا الوقت أعلن عن تأسيس «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» وتلك المقاومة حولت «نزهة الأسبوعين» التى وعد بها شارون رئيس وزرائه بيجين، إلى مغامرة دموية، كلفت إسرائيل مئات من جنودها بين قتيل وجريح، وخلفت طعم المرارة الناجم عن عجز السلاح، أمام إرادة شعب مصمم على الحرية.
ازداد إحراج إسرائيل بسبب ردود الفعل على مجازر صبرا وشاتيلا، وتصاعد العمليات المسلحة ضد قواتها، فنفذت انسحابا جزئيا من بيروت الغربية فى 27 سبتمبر فى «الوقت المناسب» كما كتب روبرت فيسك، وبعد مرور عام على الاحتلال تغير المناخ الشعبى فى الجنوب والبقاع، فالذين توهموا أن القوات الإسرائيلية، سوف تخرج الفدائيين الفلسطينيين، وتنسحب إلى ما وراء الحدود، أدركوا أن الاحتلال ينوى البقاء.
بحلول 15 يونيو كانت القوات الإسرائيلية تحاصر بيروت، وتطالب الولايات المتحدة بإخراج منظمة التحرير من لبنان، استمر حصار بيروت لمدة سبعة أسابيع، قطعت خلالها إسرائيل الكهرباء وإمدادات الماء والطعام عن المدينة، وهاجمت بيروت الغربية، عن طريق البر والبحر والجو، وأدى القصف العشوائى إلى مقتل آلاف المدنيين.
وصل مبعوث الولايات المتحدة (فيليب حبيب) إلى المنطقة للتفاوض مع إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم إنهاء الحصار، وتوصل بالفعل إلى هدنة، تقتضى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وانسحاب القوات الإسرائيلية، ووصول قوات أمريكية وفرنسية وإيطالية، للإشراف على خروج مقاتلى منظمة التحرير، وتأمين الحماية للمدنيين العزل من الفلسطينيين.
كانت البلاد قد وصلت إلى حافة الكارثة الاقتصادية، وفى فبراير عادت القوات السورية إلى بيروت الغربية، بدعوة من القادة المسلمين، رحبت بهم العاصمة، على أمل أن يضعوا حدا للاقتتال الدائر بين مسلحى الحزب التقدمى وحركة أمل، كانت البلاد تعمل فى ظل 17 طائفة تمثل المشهد اللبنانى بعد عام 1983، فالحرب التى اندلعت جزئيا بسبب النزاعات الطائفية، لم تلبث أن صارت المرجل، الذى يعاد إنتاج الطوائف من خلاله.
وجاء اتفاق الطائف عام 1989, ليمثل بداية النهاية للقتال، وفى يناير من ذلك العام، بدأت لجنة عينتها جامعة الدول العربية فى صياغة حلول للنزاع، وفى مارس 1991، سن البرلمان قانونا للعفو عن جميع مرتكبى الجرائم السياسية، وفى مايو 1991, حلت الميليشيات، باستثناء حزب الله، فى حين بدأت القوات المسلحة اللبنانية فى إعادة البناء ببطء، باعتبارها المؤسسة الوحيدة الرئيسية غير الطائفية فى لبنان.