توقع المفكر الأمريكي البارز فرانسيس فوكوياما ظهور "عصر جديد" على السياسة الأمريكية بعد "الفوز الكاسح" الذي حققه دونالد ترامب والحزب الجمهوري في ليلة الثلاثاء الماضي، مؤكداً أن ذلك يحمل في طياته تغيرات كبرى في مجالات سياسية مهمة بدءاً من الهجرة، وصولاً إلى الحرب الروسية الأوكرانية.
موضوعات مقترحة
وتكمن أهمية الانتخابات الأمريكية في أن آثارها تمتد إلى ما هو أبعد من تلك القضايا المعينة، لتمثل أمرا حاسماً للناخبين الأمريكيين الليبراليين وكيفية استيعابهم لمفهوم "السوق الحر" الذي تطور منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وقال فوكوياما، في مقاله بعنوان "ماذا يعني انطلاق عنان ترامب بالنسبة لأمريكا" بصحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، "إنه حين انتُخب ترامب لأول مرة في 2016، كان من السهل الاعتقاد بأنه انحراف عن المألوف، فقد كان يخوض المعركة أمام منافس ضعيف هي هيلاري كلينتون، ولم يتعامل معه على محمل الجد.. وعندما فاز بايدن بالرئاسة وقبع بالبيت الأبيض السنوات الأربع التالية، بدا الأمر كما لو أن الأمور عادت إلى طبيعتها بعد دورة رئاسية كارثية".
وأضاف المفكر فوكوياما، الذي يوصف بأنه "عراب المحافظين الجديد" بالولايات المتحدة الأمريكية وصاحب الكتاب الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأول" الذي أثار ضجة واسعة في مطلع التسعينيات، "لكن بعد نتائج تصويت الثلاثاء، يبدو الأمر حالياً أن ترامب يدق أجراس حقبة جديدة من السياسات الأمريكية، وربما في العالم بأسره".
وأشار إلى أن الأمريكيين صوتوا وهم على دراية تامة من هو ترامب، وما التيار الذي يمثله، فهو لم يفز بغالبية الأصوات الشعبية ويرتقب فوزه بجميع الولايات المتأرجحة فحسب، بل تمكن الجمهوريون أيضاً من استعادة مجلس الشيوخ ويحتمل انتزاع أغلبية مجلس النواب.. ومع الأخذ في الاعتبار سيطرة الجمهوريين على المحكمة العليا، فإنهم الآن مهيئون للسيطرة على المفاصل الحكومية الرئيسية جميعها.
وحول طبيعة الحقبة الجديدة التي يتوقعها، قال الكاتب الأمريكي البارز "إن الليبرالية الكلاسيكية ظلت عقيدة تتمحور حول مساواة الأفراد والحفاظ على كرامتهم عبر حكم القانون الذي يضمن حماية حقوقهم المكفولة، وعبر المراجعات الدستورية لمدى قدرة الدولة على معارضة تلك الحقوق والتدخل فيها، لكن على مدار نصف القرن الماضي، هذا الدافع الرئيس انطوى على تشوهين كبيريين؛ أولاهما "الليبرالية الجديدة"، الفكر الاقتصادي الذي منح الأسواق "مكانة قدسية" وقلص من قدرة الدولة على حماية أولئك المضارين بالتغيرات الاقتصادية.
أما التشوه الآخر، فيتمثل في تصاعد هوية السياسات أو ما يمكن وصفه بـ"الصحوة الليبرالية"، التي استُبدلت فيها المخاوف المتصاعدة لدى الطبقة العاملة لتحل محلها حمايات مستهدفة لمجموعات أقل من الجماعات الهامشية: الأقليات العرقية، والمهاجرون، والأقليات الجنسية، وما شابهها، ولم تعد قوة الدولة تستخدم لخدمة تحقيق العدالة غير المنحازة، بل استُخدمت لتشجيع الإفرازات الاجتماعية المعينة لتلك الجماعات وتقويتها.
ويرصد فوكوياما الصورة على الوجه الآخر من المجتمع الأمريكي في خضم تلك التحولات، قائلاً "وفي الوقت نفسه، فإن أسواق العمل عرفت تحولاً إلى الاقتصاد المعلوماتي، فيما حظيت المرأة بمساواة وقوة أكبر داخل منظومة الأسرة في المجتمع، وقاد ذلك إلى تحولات جوهرية الثوابت الاجتماعية للقوة السياسية، إذ استشعرت الطبقة العاملة أن الأحزاب اليسارية لم تعد تدافع عن مصالحها وشرعت في التصويت لليمين".
وأضاف: "فقد الديمقراطيون التواصل مع قاعدتهم من الطبقة العاملة، وأصبح حزباً يحكمه طبقة من المهنيين المتحضرين المثقفين، وينتقل إلى أوروبا ملقياً الضوء على أنه حدث كذلك في القارة، حيث تحول ناخبو الحزب الشيوعي في فرنسا وإيطاليا للتصويت إلى ماري لو بان وجيورجيا ميلوني لأنهم ساخطون جميعاً على نظم التجارة الحرة، التي أضرت بمستوى معيشتهم وخلقت طبقة جديدة من فاحشي الثراء".
واستطرد المفكر فوكوياما "إن الانتخابات الأخيرة كشفت النقاب عن تغيرات اجتماعية جوهرية بفوز الجمهوريين الكاسح استناداً إلى تصويت ناخبين من الطبقة العاملة البيضاء.. لكن، فوز ترامب قاد إلى هبوط كبير في تصويت الطبقة العاملة من السود وذوي الأصول الإسبانية، ولاسيما بين الذكور من الناخبين الذين غلبوا عنصر الطبقة على العرق أو الأصل القومي، هذا التحول يبدو جلياً في نماذج التصويت التي حققها ترامب، حيث لم يغامر الكثير من ناخبي الطبقة العاملة بالتصويت لمصلحة تيار الليبراليين، سواء داخلياً أو دولياً".
وحذر فوكوياما، في مقاله، من أن ترامب بفكره المؤيد للحمائية واعتبار التعريفات الجمركية وسيلة مثلى للوقوف في وجه البضائع المصنعة في الخارج، قد يولد تأثيرات سلبية على التضخم والإنتاجية والتوظيف، فمثل هذا المستوى من الحمائية سيضر بسلاسل الإمدادات، وسيتسبب في حدوث مستويات مرتفعة من الفساد والمحسوبية، كما أنه يستدعي تصعيداً هائلاً من الدول الأخرى، ما يقود إلى حدوث انهيار في التجارة والدخل.
ولفت إلى أنه في السياسة الخارجية، يتوقع قائمة افتراضية تضم أكبر الخاسرين بعد فوز ترامب في الانتخابات الأخيرة، وفي صدارتها أوكرانيا التي تعاني الأمرين حتى قبل وصول ترامب للبيت الأبيض، إضافة إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) بوجه عام، في ضوء افتقاده لأي بديل أوروبي بوسعه الحلول محل أمريكا في قيادة التكتل الغربي، ويضاف إلى ذلك النظم الأوروبية الكلاسيكية التي يتوقع الكاتب الأمريكي أن يلهم فوز ترامب الشعبويين الأوروبيين في بلدان أخرى من القارة، مثلما حدث في ألمانيا وفرنسا.