يُنظر إليه باعتباره أغزر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري، وأحد أعلام الفكر والأدب البارزين في تاريخ الأندلس..إنه الإمام أبو محمد علي بن حزم.
بيت الوزير
وُلد أبو محمد علي بن سعيد بن حزم الظاهري الأندلسي في التاسع والعشرين من رمضان سنة 384هـ في مدينة قرطبة، ونشأ في عائلة مُترفة، فوالده كان وزيراً أيام الدولة العامرية، فحفظ القرآن الكريم في وقت مبكر، وعندما كبر قليلاً بدأ بحضور مجلس والده الذي كان يضم العديد من الأدباء والشعراء والفقهاء والمفكرون.
كان الأب يُعد ابنه لكي يكون سياسياً بارزًا، لكن اهتمام الابن بالسياسة لم يكن بالدرجة الكافية، ولعل المنعطف الكبير في حياة ابن حزم الذي دفعه لأن يتجه لدراسة الفقه ومن ثم يصبح من أشهر الفقهاء في الأندلس، انه حضر تشييع جنازة أحد أقربائه، ولم يعرف كيف تؤدى الصلاة على الميت؛ مما جعل بعض الحاضرين ينتقدونه، فكانت هذه الحادثة سبباً رئيساً لدراسته الفقه والتعمق فيه.
تعرض والده لنكبة عظيمة خلال أحداث القتنة الكبرى التي حلت بالأندلس خلال أوائل القرن الخامس مع بداية عصر ملوك الطوائف، فصودرت أمواله وأودع السجن، إلى أن استرد حريته وتوفي عام 402هـ، ومع ذك فقد انغمس ابن حزم الابن في السياسة، بل تولى الوزارة للخليفة الأموي المرتضي بالله في مدينة بلنسية (فالنسيا) في شرق الأندلس، وكان ذلك عام 409هـ، لكنه سُجن وعاد للوزارة مرة أخرى للخليفة المستظهر بالله لكنه سرعان ما عُزل عنها بعد أقل من شهر ونصف لمقتل الخليفةعام 412هـ، كما تولى الوزارة لهشام المعتد بالله آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس، وذلك عام 422هـ، وهكذا أطاحت أحداث الفتنة بالطموح السياسي لابن حزم، وهذا ما صرفه للتأليف والتدريس.
مؤلفات ابن حزم
ألف ابن حزم في الفقه وأصوله وعلم مقارنة الأديان، ووضع أساس المذهب الظاهري، وشرح منطق أرسطو وأعاد صياغة الكثير من المفاهيم الفلسفية، وربما يعتبر أول من قال بالمذهب الأسمى في الفلسفة الذي يلغي مقولة الكليات الأرسطية (الكليات هي أحد الأسباب الرئيسة للكثير من الجدالات بين المتكلمين والفلاسفة في الحضارة الإسلامية وهي أحد أسباب الشقاق حول طبيعة الخالق وصفاته).
ذكر ابنه أبو رافع الفضل أن مبلغ تآليف أبي محمد هَذَا فِي الفقه والحديث والأصول والتاريخ والأدب وغير ذَلِكَ بلغ نحو أربع مئة مجلد تشتمل عَلَى قريب من ثمانين ألف ورقة.
من أشهر مؤلفات ابن حزم:"الفصل في الملل والأهواء والنِحل، المحلى في شرح المجلي، طوق الحمامة، الإحكام في أصول الأحكام، التلخيص في وجوه التخليص، نقط العروس، جمهرة أنساب العرب، الرسالة الباهرة، الأخلاق والسير، جوامع السيرة النبوية،"، وغيرها الكثير والكثير من المؤلفات.
محنة حرق مؤلفاته
وارتبطت مصنفات ابن حزم بحادثة خطيرة طالما تكررت بالأندلس كلما ضاق أهلها باحد ممن يخالفهم من العلماء، وهي إحراق كتبه علانية بإشبيلية، بيد أنها لم تُفقد من جراء ذلك، فقد كان له جماعة من تلاميذه النجباء الذين قدروا فكره وحافظوا على كتبه التي كانوا يمتلكونها بنسخها ونشرها بين الناس، ولذا فعندما أحصاها ابن مرزوق اليحصبى وهو من المتأخرين وجدها ثمانين ألف ورقة، وهو نفس إحصاء أبي رافع الفضل في القرن الخامس الهجري /الحادي عشر الميلادي، ويمكن أن نرجع أسباب حادثة حرق مؤلفات ابن حزم لعدة أسباب، منها:
أولا: ثقة ابن حزم بنفسه عند منازلة كبار فقهاء المالكية، وعدم تردده في تسفيه آراءهم طالما خالفت ما يراه حقاً.
ثانيا: تنديده بولاية خلف الحصرى للخلافة بإشبيلية، ومبايعته على أنه الخليفة هشام المؤيد سنة 325 هـ/1033م في عهد محمد بن إسماعيل القاضي والد المعتضد بن عباد (ملوك إشبيلية زمن ملوك الطوائف)، فعندما حل بإشبيلية أوقع به المعتضد أشد إيقاع لما صدر منه من إثارة الناس حول محمد بن إسماعيل رأس الاسرة العبادية.
ثالثا: معارضة فقهاء المالكية له وسعيهم لدى السلطان للإيقاع به وإثارة العامة ضده، ومن ثم التقت أغراضهم مع ما كان يرمى إليه المعتضد، فكانت واقعة إحراق كتبه على مسمع ومرأى من الناس.
رابعا: نزعة ابن حزم الأموية ودعوته لإعادة حكم الأمويين في الوقت الذي قطع فيه معظم ملوك الطوائف كل صلة بالأموية الأندلسية، وحاول كل واحد منهم أن يحقق استقلالاً سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، خاصة المعتضد الذي ما وافق على خدعة أبيه بعد وفاته بمبايعة خلف الحصرى بإشبيلية على أنه هشام المؤيد إلا ليصبغ الشرعية على محاولته الاستقلالية، وليرضى أصحاب النزعات الأموية بإمارته. فلما تحقق له ذلك أعلن وفاة الخليفة المزعوم.
خامسا: أن ابن حزم لم يكن ينظر إلى أمراء عصره ومنهم المعتضد نظرة إكبار فهو وزير ابن وزير، وما كان له أن ينظر إليهم أكثر من نظرته إلى من دونه أو من ليسوا أكبر منه، وهم يأنفون من ذلك الأمر الذي دفع المعتضد إلى تدبير مؤامرة تجعله ذليلا لا يشمخ براسه عليه ولا على غيره هي إحراق كتبه.
وفاة ابن حزم
وبالرغم من هذه المؤامرة التي ألمت بابن حزم، فلم يتحقق للمعتضد بن عبد ملك إشبيلية الذي عُرف باستبداده ما كان يصبو إليه من كسر كبريائه وإذلاله، بل ظل الرجل يشمخ بمكانته وعلمه وعقله هنا وهناك دون ضعف ولا ذلة، لكنه آثر السلامة وغادر إشبيلية إلى قريته منت ليشم التي كان يمتلكها ويتردد عليها، وظل بها يمارس التصنيف والتدريس حتى وافته المنية عشية يوم الأحد 28 شعبان 456 هـ/15 يوليو 1063 م، وليس كما ذهب البعض من أن وفاته كانت سنة 457 هـ/1064 م، ولا 455 هـ/1063 م، لأن أبا رافع ولد ابن حزم هو الذي كتب التاريخ الذي ذكرناه، وهو الأعلم من أي أحد بتاريخ وفاة والده، فضلا عن أن معظم من ترجم لابن حزم ذكروا سنة وفاته كما ذكرها ابنه الفضل.
كان ابن حزم قد رثى نفسه قبل وفاته بهذه الأبيات الشعرية كأنه أحس بدنو أجله قائلا:
كأنك بالزوار لى قد تبادروا وقيل لهم أودى على بن أحمد
فيارب محزون هناك وضاحك وكم أدمع تزرى وخد محدد
عفا الله عنى يوم أرحل ظاعنا عن الأهل محمولا إلى ضيق ملحد
وأترك ما قد كنت مغتبطا به وألقى الذي آنست منه بمرصد
فواراحتى إن كان زادى مقدما ويانصبى إن كنت لم أتزود
أقوال العلماء فيه
قال عنه الذهبي: “كان كثير العلم، واسع الرواية، صاحب فنون”.
قال عنه الزُّبيدي: “كان نفطويه أديباً متفنِّناً في الأدب، حافظاً لنقائض جرير والفرزدق وشعر ذي الرُّمة وغيرهم من الشعراء، وكان يروي الحديث، وكان ضيِّقاً في النحو، وكان يخضِب رأسه ولحيته إلى أن مات، وكان سمج المنظر..”.
وعنه أيضاً؛ قال محمد بن إسحاق النديم في كتابه”.. وكان طاهِر الأخلاق، حسَن المجالسة، وخلَطَ نحو الكوفيين بنحو البصريين، وكان مجلسه في مسجد الأنبارييِّن بالغَدوات، وتفقَّه على مذهب داود ورأس فيه”.
قال عنه الدار قطني: ” لم يكُن بالقوي في الحديث”، ثم يقول ” لا بأس به”.
قال ابن الجَزري: ” كان صدوقاً”.
قال عنه المسعودي: ” أحسن أهل عصره تأليفاً وأصلحهم تصنيفاً”، وقال أيضاً عن كتابه “التاريخ” المفقود: ” محشوٌ من مَلاحة كتب الخاصَّة مملوءةٌ من فوائد السَّادة”.
وقال ياقوت الحموي: “كان نفطويه عالماً بالعربية واللغة والحديث؛ أخذ عن ثعلب والمبرد، وكان زاهر الأخلاق، حسن المجالسة، صادقاً فيما يرويه، حافظاً للقرآن، فقيهاً على مذهب داود الظاهري رأساً فيه؛ مسنداً للحديث، حافظاً للسير وأيام الناس والتواريخ والوفيات، ذا مروءة وظرف. جلس للإقراء أكثر من خمسين سنة، وكان يبتدئ في مجلسه بالقرآن على رواية عاصم، ثم يقرئ الكتب، وكان يقول: سائر العلوم إذا مِتُّ، هنا من يقوم بها، وأما الشعر، فإذا مِتُّ مات على الحقيقة. وقال: من أغرب عليَّ بيتاً لجرير لا أعرفه فأنا عَبْدُه”.
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي