ورد اسم الله الأعظم الغفور في غير ذي موضع من كتاب الله الكريم، وهذه دلالة بالغة على عظم مغفرة الله سبحانه وتعالى لعباده، ما دام العبد لم يشرك بالله تعالى، فإنه حق على الله تعالى أن يغفر له، والحقوقية في هذا الموضع ليست حقوقية جبر، فالله تعالى لا أحد يجبره على فعل شيء، وإنما حقوقية فضل وتفضل من الله تعالى، مصداقًا لقوله تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى"، فحق على الله أن يمنحه ويتفضل عليه بمنحة الغفران، وكما سبق، فليس هناك جرم لا توبة معه حتى الشرك، وهو جريمة عظمى، لكن إذا تاب العبد واسترجع وأقلع عن شركه وانتهى، فالله تعالى يغفر له ذنوبه.
وقد ورد في الحديث القدسي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً.. يقول تعالى " يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".. ويقول أيضًا "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا"، فالله تعالى غفار، وقابل التوب وغافر الذنب، يقول تعالى في حديث قدسي ما معناه، لولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى فيغفر لكم أو ليذهبن الله بكم، ويأتي بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم.
فما أعظمك إلهنا، ما أرحمك، ما أحلمك، تبسط يدك بالليل ليتوب مسيء النهار وتبسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل.
ما أحلمك وأنت تسمع عبادك يناجونك في سكون الليل قائلين متذللين خاشعين، يا غفور، فتجيبهم نعم عبادي، قال - صلى الله عليه وسلم - في الصائم يقول الله تعالى يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي).
نعم صدقت وقولك الحق، "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا"، فليس ثمة علاقة بين الإكثار من الاستغفار وارتكاب الذنوب، لكن من من بني آدم معصوم من الذنوب، كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
لكن وضعية الاستغفار في الآية سالفة الذكر، قرب وتقرب إلى الله، ليس هذا وحسب، بل لقضاء الحوائج، فمن أراد بسطة وسعة في الرزق فعليه بالإكثار من اسم الله الأعظم الغفور، من أراد الولد فعليه بالاستغفار، من أراد الاستسقاء والمطر والري، من أراد أي أمر من أمور الدنيا فعليه بالاستغفار، ومن أراد استجابة الدعاء فعليه بالاستغفار، ولنا في قصة الخباز الذي أراد أن يرى الإمام ابن حنبل العبرة، إذ ساقه الله إلى عتبة بابه، فالإمام رحمه الله تعالى كان في سفرة من أسفاره، فوجبت عليه الصلاة، فصلى فأنام في المسجد فأيقظه خادم المسجد وهو لا يعرفه وطرده، فذهب إلى خباز ليدله على بيت ينام فيه للصباح فاستضافه الرجل عنده دون أن يسأله عن اسمه وصليا الفجر جماعة، وما إن هم الإمام بالانصراف سأل الرجل ألا تريد أن تعرف إسمي، قال إن شئت قل، وإن لم تشأ فلك ما تريد، فسأله الإمام قائلا سمعتك تدعو وتتوقف قائلا استغفر الله، قال له الخباز، ما دعوت دعوة وبعدها استغفر الله إلا وحققها الله تعالى إلا واحدة، قال له ما هي قال دعوت الله أن أرى ابن حنبل في المنام، فقال له الإمام هأنا ذا لقد ساقني الله إليك سوقًا!! هذا فضل الاستغفار.
فلا تظن أن الله لا يغفر لك وأنك لا محال من أهل النار، فلماذا يعذبنا الله تعالى، "مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا"، فلماذا يعذبنا الله تعالى، وهو القائل لملائكته، لو خلقتموهم لرحمتموهم.
نعم كثر الخبث، وكثرت الموبقات وانتشرت الفاحشة بكل صورها، لكن هل بابه تعالى مغلق، كلا ألبته لم ولن يغلق بابه أبدًا فهو تعالى غفار، ما لم يغرغر المرء، فهو غفور رحيم ويظل يغفر لكل مستغفر ما لم تطلع الشمس من المغرب، ليس هذا فحسب، بل وهو تعالى ينزل إلى المساء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة، فيقول هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، فلا تظن أنك بمعصيتك ستكون مع الهالكين، فهذه جميعها مسالك ومداخل الشيطان ليجعلك تتمادى في كفرانك وطغيانك.
لا فربنا غفور رحيم، وليس معنى ذلك أن تتمادى في عصيانك وفسوقك، فالله أعطانا هذه الفسح من أمرنا كي نراجع أنفسنا، فينبغي علينا ألا نؤجل التوبة ونسوف الاستغفار، فقولنا سوف نستغفر تسويف من الشيطان، ونحن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة القائل وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة، وفي رواية أخرى سبعين مرة، فالاستغفار تقرب إلى الله تعالى.
أما تلازمية العلاقة بين غفور ودود فهذا دليل دامغ على غفران الله تعالى لنا متوددًا إلينا ولم لا وهو حبيبنا وهو القائل "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا" هذا الود أن يوضع لهم القبول في الدنيا بين الناس ويوضع له القبول في أهل السماء.. فهلا استغفرنا الله تعالى.
* أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان