المخاطر الإقليمية الناجمة عن عدوان الكيان الصهيوني على فلسطين ولبنان، بلغت مستوى غير مسبوق، وخلفت آثارًا كارثية، وجرائم ضد الإنسانية وخسائر فادحة في الأنفس والممتلكات، وتركت مئات الآلاف في براثن الجوع والمرض، وأدت إلى التهجير الجماعي للسكان.
وألقت الحرب الإسرائيلية بآثار سلبية على اقتصادات المنطقة، فقد تقِّوّض عقودًا من التقدم، وتؤخر مسيرة التنمية الاقتصادية لعدة أجيال، وربما تحتاج إلى عشرات السنوات للتعافي.
وعلى مدى العام الماضي شهدت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تخفيضًا كبيرًا، وكان التخفيض الأكبر للبلدان التي تعاني من أوضاع الهشاشة والمتأثرة بالصراعات. وتعزى هذه التخفيضات جزئيًا إلى زيادة عدم اليقين بسبب الحرب في غزة ومؤخرًا لبنان. ففي سبتمبر الفائت بلغت حالة عدم اليقين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقريبًا ضعفي ما هي عليه في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية.
توقعات النمو
في أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي، تم تخفيض توقّعات النمو في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى 2,1% لعام 2024، بتراجع نسبته 0,6% عن توقعاته السابقة الصادرة في أبريل الماضي بسبب الحرب الإسرائيلية وخفض إنتاج النفط.
وفي خضم أزمة إنسانية متفاقمة، توقف اقتصاد غزة بشكل شبه تام، مع انكماش هائل نسبته 86% خلال الربع الثاني من العام الجاري نتيجة للعدوان الإسرائيلي المستمر. وفي الضفة الغربية انكمش الاقتصاد أيضًا 25% خلال الربع الثاني من 2024، مع وجود احتمالات لحدوث مزيد من التدهور.
وهذا التراجع ناتج عن تشديد القيود على الحركة والانتقال وخفض الاستهلاك والأزمة الحادة التي تواجهها المالية العامة. ونتيجة للاستقطاعات التي يجريها الكيان الصهيوني على تحويلات إيرادات المقاصة، وتراجع حصيلة الضرائب المحلية، تواجه السلطة الفلسطينية فجوة تمويلية بنحو 1.86 مليار دولار في 2024، أي أكثر من ضعفي الفجوة في 2023.
ورغم أنه تم تعليق توقّعات صندوق النقد للبنان، حيث يتصاعد العدوان الإسرائيلي بشكل حاد منذ نهاية سبتمبر الفائت، فإن التقديرات "الحذرة" تظهر انكماشًا بنسبة تتراوح بين 9 إلى 10% هذا العام.
وفاقمت هذه الأزمة من معاناة لبنان الذي يشهد على مدار السنوات الماضية انهيار اقتصادي كان له تأثير مأساوي على المرافق العامة وسبل كسب العيش للسكان.
الاقتصادات المجاورة
في الاقتصادات المجاورة، أدى العدوان الإسرائيلي إلى إضعاف النشاط الاقتصادي، وتعميق الأزمة التي يعانيها قطاع الطيران والسياحة، والتي بدأت منذ جائحة كورونا، ولم يستطع التعافي منها، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر.
ففي الأردن على سبيل المثال، تراجعت عائدات السياحة 6.6% حتى أغسطس 2024 على أساس سنوي. كما انخفضت إيرادات المالية العامة في مصر بنحو 62% نتيجة تراجع إيرادات قناة السويس خلال النصف الأول من 2024 مقارنة بالنصف الثاني من 2023.
وسجلت قناة السويس خسائر تتراوح بين 550 إلى 600 مليون دولار شهريًا بما يعادل نحو 6 مليارات دولار، بعد أن كانت مصدر دخل ثابتًا ومستقرًا يسهم في زيادة الموارد من العملة الصعبة بجانب تحويلات العاملين في الخارج والاستثمار الأجنبي المباشر والصادرات.
تمر 12% من حركة الشحن والتجارة الدولية عبر قناة السويس وتعتبر بوابة لوجستية رئيسة لربط أوروبا بآسيا والشرق الأوسط، وتدفقت عبرها نحو 9.2 مليون برميل يوميًا من النفط في النصف الأول من 2023، وهو ما يمثل نحو 9% من الطلب العالمي.
وبصفة عامة تؤثر التوترات الجيوسياسية على آفاق النمو في الأجل المتوسط، وهذا يفضي إلى صعوبات كبيرة في إدارة الديون، كما يمكن أن تزيد الضغوط على المالية العامة بطرق أخرى.
وعادة ما تتجه الحكومات إلى زيادة الإنفاق العسكري أو الإنفاق الأمني، مما يؤدي إلى اتساع العجز وزيادة الاقتراض.
ويميل هذا النوع من الإنفاق إلى تقليص الاستثمارات والبرامج الاجتماعية والبنية التحتية، وهو ما يؤثر سلبًا على النمو في المدى الطويل.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التوترات الجيوسياسية ترفع علاوة المخاطر على الاقتراض مما يجعل تكلفة الاقتراض أكثر تقلبًا.
الاقتصاد العالمي
على الصعيد العالمي، أظهرت أسواق الطاقة والأسواق المالية حتى الآن قدرة على الصمود. وعلى الرغم من بعض التقلبات المبكرة وقصيرة الأجل، انخفضت الأسعار الفورية والعقود الآجلة للنفط بصورة كبيرة من أكتوبر 2023، وسط قوة المعروض ومخاوف بشأن ركود الطلب.
وأدت تعطيلات النقل البحري، لاسيما عبر قناة السويس، إلى زيادة أوقات الشحن والأسعار الفورية، حيث ارتفعت أسعار الشحن من أربعة إلى خمسة أضعاف بحلول أغسطس 2024 مقارنة بمستوياتها في نوفمبر 2023. ومع انخفاض الطلب العالمي وزيادة أحجام الناقلات وثبوت الأسعار التعاقدية، لم تنتقل الزيادة في تكاليف الشحن إلى المستهلكين حتى الآن.
بيد أن إطالة أمد الحرب وتوسعها يلقي بظلال قاتمة، فقد يواجه الاقتصاد العالمي الانكماش، وربما تكون سلاسل الإنتاج والتوريد هي الأكثر تأثرًا بما يحدث في الشرق الأوسط.
تكلفة الصراع
يسلط العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، والصراع في السودان الضوء على اتجاه أوسع نطاقًا لتصاعد العنف في المنطقة، إذ حدثت زيادة أكثر من الضعفين في حلقات الصراع وستة أضعاف في حصة الشرق الأوسط من الوفيات العالمية منذ تسعينيات القرن الماضي.
وتتجاوز تكلفة الصراع ما يمكن أن تقيسه المؤشرات الاقتصادية الشائعة، ومع ذلك تؤدي الصراعات بكل تأكيد إلى خسائر اقتصادية فورية ولها آثار ضارة طويلة الأجل على التنمية.
وتنبع هذه النواتج من خسائر رأس المال البشري والنزوح القصري، وتدمير البنية التحتية، ومختلف أشكال الفوضى الاقتصادية، بما في ذلك تعطل سلاسل التوريد.
ويشير تحليل للبنك الدولي إلى أنه لو لم يوجد الصراع، لكان من الممكن أن يزيد نصيب الفرد من الدخل في البلدان المتضررة من الصراع في الشرق الأوسط وإفريقيا بنسبة 45% في المتوسط بعد سبع سنوات من نشوبه، وتعادل هذه الخسارة قيمة 35 سنة من التقدم في المنطقة.
التعاون الدولي
لهذه الأسباب ينبغي على البلدان المتضررة تقويم المخاطر الناجمة عن التوترات الجيوسياسية بعناية شديدة، وضمان وجود ضوابط كافية وخطط مالية متوسطة الأجل، فضلا عن تبني نظم حوكمة مالية قوية لضمان الشفافية والمساءلة في الإجراءات المالية.
بيد أن السياسات الداخلية وحدها ليست كافية، فنحن بحاجة إلى جهود متعددة الأطراف لتعزيز التعاون والتنسيق الدوليين لمواجهة تأثير التوترات الجيوسياسية والشرذمة الاقتصادية وإنهاء جميع الصراعات.
وفي اعتقادي، الوقف الفوري لكل الأعمال العدائية وعودة الحقوق للشعب الفلسطيني، يمثل حجر الأساس للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي المستدامين في المنطقة.
وينبغي على المانحين والمؤسسات المالية الدولية الحفاظ على التزاماتها لمساعدة هذه البلدان على مواجهة التحديات، ودعم الجهود الدولية بهدف إيجاد حلول لنقص السيولة وتمويل النفقات المرتبطة بأهداف التنمية المستدامة ومساعدة الفئات الأكثر احتياجًا.