ملأ الدنيا عدلاً فلم يبقى فقير وعاش فقيراً رغم أنه الخليفة، تنبأ بنهاية الدولة الأموية فحاول إنقاذها بإلغاء الإقطاع وإقامة العدل ولكنه قتل مسموماً، وأصبح ابنه أقرب المقربين للخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عدو الأمويين الأول.. إنه الخليفة العادل الراشد عمر بن عبد العزيز.
هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، وُلد في المدينة المنورة في الحجاز في 24 صفر 63 هجرية، أما والده فهو عبد العزيز بن مروان بن الحكم والي مصر، وأما والدته فهي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وقد تغيرت حياة أسرته عندما تولى جده مروان بن الحكم الخلافة عام 64 هجرية/ الموافق 684م وذلك بعد انتقال الأسرة إلى بلاد الشام.
كان عمر بن عبد العزيز وقتها طفلاً لا يتجاوز العامين من عمره، في عام 65 هجري الموافق 685م توفي مروان بن الحَكم وتولى الحُكم عبد الملك بن مروان، والذي عين عبد العزيز بن مروان بن الحكم والياً على مصر، فعاش عمر بن عبد العزيز بداية طفولته في مصر، ثم أرسله والده إلى المدينة المنورة ليشرف خاله عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على تربيته وتعليمه، وبهذا تربى عمر بين أخواله بالمدينة المنورة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وعُرف عنه شدة الإقبال على العلم والعلماء، وحدث عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، وقال أنس بن مالك: «ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله ﷺ من هذا الفتى»، وتعلم عمر بن عبد العزيز على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها.
ولاحقاً أصبح عبد العزيز ولياً للعهد ولكن الخليفة عبد الملك بن مروان عزله منها قبل وفاته في عام 86 هجرية/ الموافق 705م ويدفعها لولده الوليد بن عبد الملك ، وفي نفس العام توفي الخليفة عبد الملك بن مروان وتولى الحُكم الخليفة الوليد بن عبد الملك، والذي قام بتعيين عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة المنورة، وبهذا تحول عمر بن عبد العزيز الذي كان متفرغاً لطلب العلم وجمعه إلى حاكم للمدينة المنورة، فقبل هذا المنصب ليقوم بإصلاح أمور غير راض عنها، وليقدم دعماً إضافياً للعلم والعلماء، وأسس في المدينة مجلساً للشورى سمي بـ«مجلس فقهاء المدينة العشرة»، وفي عام 91 هجرية/ الموافق 710م أصبح والياً على كامل الحجاز.
خلال إمارته وسّع عمر بن عبد العزيز المسجد النبوي فجعله مئتي ذراع في مئتي ذراع، ولكن تصاعدت الخلافات بينه وبين والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، فقد أرسل عمر للوليد رسائل عن يشرح فيها ظلم الحجاج على العراق، وأصبح عمر يستقبل الفارين من الحَجاح، وعندما قرر الحجاج أداء مناسك الحج أرسل عمر للوليد يطلبه منه أن لا يدخل الحجاج إلى المدينة المنورة، فانتقم الحجاج من عمر عندما أرسل الحجاج للوليد بن عبد الملك يطلب منه أن يعزل عمر بن عبد العزيز، فقام الوليد بعزل عمر بن عبد العزيز في عام 93 هجرية/ الموافق 711م، وانتقل عمر للعيش في دمشق وتم إبعاده عن شؤون الحكم.
توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك عام 96 هجرية/ الموافق 715م وتولي الحكم سليمان بن عبد الملك، والذي جعل عمر بن عبد العزيز وزيره ومستشاره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في كل صغيرة وكبيرة، ومن القرارات التي اقترحها عمر بن عبد العزيز، عزل والي مكة خالد القسري البجلي، ووالي المدينة عثمان بن حيان، والأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فقد كان الوليد بن عبد الملك يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس عن رأي عمر:"إن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها"، وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته، يَحوطه بنصحه ويشاركه مسؤولياته.
أصبح الخليفة في عام 99 هجرية الموافق 717م، وذلك بعد فتح وصية الخليفة المتوفي سليمان بن عبد الملك، والتي فيها قام فيها بتوصيه من وزيره المخلص رجاء بن حيوة بتعيين عمر بن عبد العزيز خليفة من بعده ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاعترض هشام بن عبد الملك ثم بايع مُرغماً، وعندما علم بذلك: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، فقال عمر: «نعم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حين صار إليّ الأمر لكراهتي له».
وكان من أهم أعماله بعد الخلافة، رد المظالم إلى بيت المال، وتدوين الحديث النبوي، والتصالح مع الخصوم السياسيين، وعاش عيشة الفقراء وبتقشف شديد، وكان شديد الحرص على مال الرعية ففي مجلس حكمه سراجان، إذا تحدث بشؤون الحكم يشعل السراج الذي من مال الدولة، واذا تحدث بأموره الخاصة يشعل السراج الذي من ماله الخاص.
يدعي مزوري التاريخ والكارهين لعمر بن عبد العزيز بأنه بمجرد توليه للخلافة قام بفك الحصار عن القسطنطينية وبهذا أضاع فرصة فتح القسطنطينية، وهذه معلومة خاطئة حيث تولي عمر بن عبد العزيز الحكم وقام بدعم ابن عمه مسلمة الذي يحاصر القسطنطينية ولكن بعد 11 شهراً أصبح هنالك إدراك باستحالة فتحها فتم فك الحصار في شهر 8-718م، أي أن عمر بن عبد العزيز فك الحصار بعد 11 شهر من توليه الحكم، وهذه ال11 شهر دليلاً كافياً على كذب أصحاب هذه النظرية.
في بداية عهده أغار الخزر على المسلمين في أذربيجان، فقتلوا من المسلمين جماعة ونالوا منهم، فَوَجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز القائد حاتم بن النعمان وانتصر عليهم، وبعد عامين أرسل القائد الوليد بن هشام المعيطي ليغزو بلاد الروم، وقام عمر بتحصين كفرييا لتكون خط دفاع أول يحمي أنطاكيا، ووردت له قصة أسير مسلم في بلاد الروم أجبر على ترك الإسلام واعتناق النصرانية، قائلين له: «إن لم تفعل سملت عينك»، فاختار دينه على بصره فسملت عيناه، فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى ملك الروم وقال له: «أقسم بالله لأن لم ترسله إلي لأبعثن إليك من الجنود جنوداً يكون أولهم عندك وآخرهم عندي»، فاستجاب ملك الروم لطلبه، وبعث بالرجل إليه.
قام عمر بن عبد العزيز بإلغاء النظام الإقطاعي والذي كان مُطبقا في الدولة الأموية، وهذا أدى إلى مصادرة الأملاك الزراعية للأمراء الأمويين، حيث أدرك عمر بن عبد العزيز بأن هذا النظام سيقضي على الدولة الأموية لاحقاً، وذلك بسبب أن عدد قليل من الأفراد يملكون كل أراضي الدولة، وهذا سيؤدي إلى ثورة الأكثرية الساحقة والتي تعاني من الظلم والجور، وإذا ثاروا ستنتهي الدولة، وأيضاً قام بإلغائه بسبب أنه كان عادلاً كارهاً للظلم، وأدى هذا القرار على إعلان غالبية الأمراء الأمويين عدائهم العلني ضد الخليفة، وكانت نظرة عمر بن عبد العزيز صحيحة حيث بعد وفاته أعاد الأمويين النظام الإقطاعي، وكان هذا النظام من أهم أسباب نهاية دولتهم، حيث أعلنت الثورة العباسية بأنها ستلغي النظام الإقطاعي فنجحت ثورتها وقامت بإلغائه، وكان إعلان العباسيين بأنهم يسعون لإلغاء الإقطاع من أهم أسباب نجاح ثورتهم.
كان عهده عهد العدل والإزدهار والذي وصل لكل رعيته عن طريق ولاته الصالحين، فقد جيء إلى عمر بن عبد العزيز بأموال الزكاة، فقال: أنفقوها على الفقراء، فقالوا: ما عاد في أمة الإسلام فقراء، قال: فجهزوا بها الجيوش، قالوا: جيوش الإسلام تجوب الدنيا، قال: فزوجوا الشباب فقالوا: من كان يريد الزواج فقد زوجناه، فقال: اقضوا الديون على المدينين، فقضوها وبقي مال، فقال: انظروا إلى المسيحيين واليهود من كان عليه دين فسددوا عنه ففعلوا ذلك وبقي مال، فقال: أعطوا أهل العلم، فأعطوهم وبقي مال، فقال: اشتروا بها قمحًا وانثروه على رؤوس الجبال لكي لا يُقال جاع طير، ولهذا تم تشبيه الخليفة عمر بن عبد العزيز بالخلفاء الراشدين، ومن المؤرخين من منحه لقب الخليفة الراشدي.
وأما أسرته فقد تزوج من ابنة عمه فاطمة بنت الخليفة عبد الملك، ومن لميس بنت علي بن الحارث ومن أم عثمان بنت شعيب بن زيان، وله من الذكور: عبد الملك · عبد العزيز · عبد الله · إبراهيم · إسحاق · يعقوب · بكر · الوليد · موسى · عاصم · يزيد · زيان · عبد الله، وله من الإناث :أمينة · أم عمار · أم عبد الله، وأما أشهر إخوته فهي أم البنين والتي كانت متزوجة من الخليفة الوليد بن عبد الملك، وأما أشهر أبنائه فالأول هو عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، والذي ثار على الخليفة الأموي مروان بن محمد فسجنه ثم أعدمه، والثاني هو عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز والذي أصبح أقرب أصدقاء الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وحارسه وكان الوحيد الذي يدخل مجلسه وهو يحمل سيفه، والوحيد الذي يجلسه المنصور معه على عرشه، ويُذكر أن قادة الثورة العباسية أمروا بعدم التعرض لذرية عمر بن عبد العزيز وذرية مسلمة بن عبد الملك عندما تقدمت ثورتهم إلا إذا واجهوهم في معركة.
توفي عمر بن عبد العزيز ودفن في دير سمعان قرب معرة النعمان شمال بلاد الشام، وكانت وفاته في 20 رجب عام 101 هجري وقد كان عمره فقط 38 عاماً، وقد أتهم عدد من الأمراء الأمويين بتسميمه؛ وذلك لأنهم ضاقوا ذرعاً من سياسة عمر التي قامت على العدل وحرمتهم من ملذاتهم وتمتعهم بميزات لا ينالها غيرهم، بل جعل بني أمية مثل أقصى الناس في أطراف الدولة.
قال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «عظني»، فقال: «مات عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وخلف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً كفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران، وقسم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً، ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً، فقسمت تركته، وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حَمَلَ في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يُتصدق عليه».
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي