بينما كنت أحتسي قهوتي المسائية في مكتبي بالمنزل، فوجئت بابني الأكبر الحسين يُهرع نحوي في ملامح أقرب إلى الهلع وهو يكرر التساؤل: معقول ده يا بابا؟ معقول؟ أنا مش مصدق، ولا يمكن أصدق، وقبل أن أتبين سر هذا الغموض في حديثه وأحاول فهم ما يرنو إليه، باغتني متابعًا بأنه يتذكر جيدًا المقال الذي كنت قد كتبته في وقت سابق، عن رصد التاريخ لمساندة ودعم مصر للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية بشكل عام، حتى أنه يتذكر من عنوانه "الكيان المحتل يتخبط.. ومصر شوكة في الحلق"، وتناقشنا بعدها وأوضحت له تلك الحقيقة بشكل أكثر استفاضة.
لكن رغم حديثه هذا لم أتبين بعد لماذا يثير هذه الفكرة الآن، إلى أن أطلعني على ما قرأه مصادفة بمواقع التواصل من شائعات متفرقة تطال اسم مصر، أخبار مكذوبة لا تتوقف ماكينة الشائعات عنها.
وكنت قبله قد سمعت وقرأت بتلك الأخبار المتداولة، وظللت في حالة ضيقٍ، تجددت وأنا أفكر في حرب الشائعات التي تستهدف وطننا، غير أن هذا الضيق زال في غمضة عينٍ وأنا أرصد أكثر من مشهد لابني في حديثه لي، وقبل أن أستكمل الحوار معه. أول هذه المشاهد الذي سيظل في ذاكرتي وأذكره به من حين لآخر مثلما أفعل في مواقف مؤثرة، هذه الغيرة الكبيرة التي رأيتها في جديته وتغير ملامح وجهه، وهو هنا لا يمثل "الابن" فحسب، بل في هذه اللحظة رأيته صورة لجيل مصري قادم بغيرته وحبه اللامحدود لوطنه وثقته غير المتزعزعة فيه، خصوصًا وهو يؤكد لي: "مش مصدق ولا يمكن أصدق"، ثم مشهد المتابعة لما يدور من حوله في العالم وعدم استكانته لما يطالع من أي مصدر، والبحث والتحري عن الحقائق، وكذلك تذكره لحوارات سابقة بيننا ولما سطرته سواء في مقال أو ذكرته في لقاءات مختلفة.
حتى بدأ حوارنا وهو متعجب من ابتسامتي تلك له، وقرأت في عينيه اندهاشة من هذا المبتسم أمام حديث جاد وخطير مثل هذا، وهنا بدأ دوري في الرد الذي أثنيت فيه على هذا الحماس الذي أحبه فيه، وأحلته إلى متابعة مصادرنا الإخبارية وقنواتنا النزيهة غير المشبوهة، والتي تفند الأخبار وتتحرى الموضوعية والدقة، ليعلم عبر المسئولين المباشرين، وأما الأخطر في هذا التوقيت ما يردده الاحتلال نفسه عن إغلاق المعابر، وهو الضالع في هذا الأمر، وهنا نبهت ولدي إلى قوله وهو يعرض فحوى الأخبار عن "الكيان المحتل والاحتلال"، وهذا ما سيلاحظه في أي خطاب رسمي للدولة المصرية التي نفخر جميعًا بانتمائنا لها ومؤكدًا بأن "ثقتك الكبيرة بوطنك في محلها يا ولدي الحبيب"، وأعرف أنك وجيلكم وأجيالًا بعدكم سوف يحفظون هذا الوطن الأكبر والأهم والأبقى في قلوبهم. ولن يسمحوا لأحد مهما كان أن يزرع في نفوسهم أي شك أو ارتياب فيه، لأنكم نبتة هذه الأرض الضالعة في الحضارة والتاريخ.
وكان لافتًا وملهمًا أن تتصدى جهات رسمية رصينة لدحض الافتراءات على الدولة المصرية في كل شأن وخصوصًا في هذا التوقيت الأصعب منذ سنوات وعقود، في ظل الحرب المشتعلة بالمنطقة وحرب الإبادة الشنيعة على أبناء فلسطين ومحاولة محو التاريخ، مع محاولات التأثير على حائط الصد المنيع والسند التاريخي لقضايا الأمة والقضية الفلسطينية التي وضح تمامًا مخطط السعي لتصفيتها، لكنها مصر وستظل مصر الشوكة التي في حلق كل مغرض، والتي لن تسمح أبدًا مهما تجبّر المجرمون، الذين دفعوا بجيوشهم وعتادهم الثقيل وجميع أسلحتهم نحو أبرياء عُزّل انتقامًا من مقاومة أرقت مضاجعهم.
وأخيرًا جميعنا نتحمل مسئولية قطع الطريق تمامًا أمام أي مغرض وأي كاره لهذا الوطن وأي مشكك في مواقفه التاريخية الداعمة للأمة كلها، سواء الآن أو عبر السنوات الطويلة، لذا يحاول هؤلاء الخبثاء الحانقون على الريادة المصرية تشويه صورة مصر التي لم تألُ جهدًا لتدويل القضية الفلسطينية، ولم تدع فرصة إلا وأكدت للعالم أجمع حق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة التي عاصمتها القدس الشرقية، والتأكيد المستمر على ضرورة العمل الدولي للدفع بإنفاذ حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطين وفق هذا السبيل الذي بمقتضاه يتحقق السلام والأمن والاستقرار في المنطقة. وهو ما أحيا القضية وأسهم فى تصدرها المشهد العالمي، بل جُعلت الدولة المصرية حجر زاوية تعبر من خلاله أفكار تحقيق الأمن ووقف الحرب بالمنطقة، ولا تزال مصر تضطلع بدورها التاريخي في هذه السياقات على المستوى الإقليمي والدولي، في الوقت نفسه الذي تواجه التحديات والأزمات الاقتصادية المتوالية، وتستمر في تطلعها ولا تتوقف عن الحلم لها ولدول الوطن ودول القارة، في عالم يموج بالصراعات وتتبدل فيه موازين القوى.