خلفت الفيضانات العارمة الت تشهدها منطقة فالنسيا التي تقع شرق إسبانيا خلفها أكثر من 200 قتيل وأكثر من 2000 مفقود، فيما تضررت آلاف المنازل، في كارثة وُفت بالأسوأ في تاريخ المدينة الساحلية التي تقع على البحر المتوسط.
فيضانات فالنسيا
دمار مدينة «دون كيخوت»
تركزت الأضرار في منطقتين عريقتين بالمدينة، الأولى هي كاستيلا لا مانشا "Castilla la mancha"، حيث دارت أحداث الرواية العالمية "دون كيشوت" الشهيرة للمؤلف ميجيل دي ثيربانتس، والتي تتناول مغامرات الفارس الشريد ورفيقه الجدير بالثقة سانشو بانسا.
مدينة كاستيلا لا مانشا مسقط رأس دون كيخوت
تدور أحداث الرواية حول شخصية ألونسو كيخانو، رجل نبيل قارب الخمسين من العمر يقيم في قرية في إقليم لامانتشا، وكان مولعًا بقراءة كتب الفروسية والشهامة بشكل كبير. وكان بدوره يصدق كل كلمة من هذه الكتب على الرغم من أحداثها غير الواقعية على الإطلاق.
دون كيخوت وتابعه سانشو بانسا
فقد ألونسو عقله من قلة النوم والطعام وكثرة القراءة وقرر أن يترك منزله وعاداته وتقاليده ويشد الرحال كفارس شهم يبحث عن مغامرة تنتظره، بسبب تأثره بقراءة كتب الفرسان الجوالين، وأخذ يتجول عبر البلاد حاملًا درعًا قديمة ومرتديًا خوذة بالية مع حصانه الضعيف روسينانتي حتى أصبح يحمل لقب دون كيخوتي دي لا مانتشا، ووُصف بـ فارس الظل الحزين.
دون كيخوت وتابعه سانشو بانسا
وبمساعدة خياله الفياض كان يحول كل العالم الحقيقي المحيط به، فهو يغير طريقته في الحديث ويتبنى عبارات قديمة بما كان يتناسب مع عصر الفرسان. فيما لعبت الأشخاص والأماكن المعروفة دورًا هي الأخرى بظهورها أمام عينيه ميدانًا خياليًا يحتاج إليه للقيام بمغامراته، وأقنع جاره البسيط سانشو بانثا بمرافقته ليكون حاملًا للدرع ومساعدًا له مقابل تعيينه حاكمًا على جزيرة وبدوره يصدقه سانشو لسذاجته. كما يحول دون كيخوتي بمغامراته الفتاة القروية جارته إلى دولثينيا، السيدة النبيلة لتكون موضع إعجابه وحبه عن بعد دون علمها.
محكمة المياه في فالنسيا
مسلمو الأندلس ومحكمة المياه في فالنسيا
أما المنطقة الثانية، فهي منطقة الأندلس "Al Andalus"، وهي المنطقة التي استوطنها المسلمون لستة قرون من الزمان وشيدوا بها مآثر حضارية وعمرانية لا يمكن أن يت تجاهلها في تاريخ شبه الجزيرة الإيبرية (إسبانيا والبرتغال).
إنجازات الحضارة الإسلامية في مدينة فالنسيا (بلنسية ـ النطق العربي للمدينة) طالت كل مناحي الحياة، بما فيها تنظيم عمليات مياه الأنهار التي أغرقت المدينة الساحلية مؤخرًا بفيضانات عارمة.
القنوات المائية التي حفرها العرب لترويض أنهار فالنسيا
كان قضايا مائية مثل شبح النُدرة المائية والكوارث المتعلقة بالفيضانات، ومنازعات الري بين المستخدمين حاضرة لدى المسلمين في الأندلس، ليتطور الإطار التشريعي للمياه الذي كان يستند للسلطة القضائية وأحكام الفقه والفتاوى الدينية لتشكيل هيئة قضائية خاصة، ألا وهى محكمة المياه في مدينة بلنسية (فالنسيا) بشرق الأندلس.
لقد حول العرب بلنسية (فالنسيا) إلى بستان حقيقي، رغم أنها تقع داخل النطاق المناخي للبحر المتوسط شحيح الأمطار، لكنهم طوعوا مياه نهر توريا "الوادي الأبيض" ورَّوضوه بالسواقي حتى أحالوا المدن إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار" .
القنوات المائية التي حفرها العرب لترويض أنهار فالنسيا
لقد أحدثت الحكومات المسلمة التي تعاقبت على بلنسية مشروعات مائية ضخمة في الفترة من الفتح الإسلامي وحتى سقوط بلنسية (711-1238م/92-636هـ)، حيث قامت بتخطيط المناطق الزراعية المحيطة بالمدن عبر شبكة إروائية متقنة، ما أدى إلى زيادة الإنتاجية البستانية هناك، حتى إن أول تقرير من وكالة البيئة الأوروبية قد حصر المناظر الطبيعية والبستانية وحددها في ستة أماكن بأوروبا، وجعل اثنتان منها في إسبانيا بمدينتي بلنسية ومُرسية.
القنوات المائية التي حفرها العرب لترويض أنهار فالنسيا
الذكرى الألفية لمحكمة المياة
احتفلت إسبانيا عام 1960م بالذكرى الألفية لإنشاء هذه المحكمة التي تأسست في أواخر عام(350هـ/960م) بأوامر من الخليفة الأموي الحكم المستنصر(350-366هـ/961-977م)، وكان قاضيه على بلنسية آنذاك عبد الرحمن بن حبال، وفى الأول من أكتوبر عام 2009 م أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" محكمة المياه" التي أسسها العرب في بلنسية، شرق إسبانيا، والتي لا تزال تعمل حتى اليوم، على قائمة التراث العالمي الذي يجب المحافظة عليه.
أُسست المحكمة لكي يتم توزيع المياه بشكل عادل بين الجميع، وتنظيم الزراعة والري، وقد قامت هذه المؤسسة المائية العريقة باعتماد كلى على نهر توريا الذي تم تقسيمه إلى ثمانية قنوات "سواقى"،هى: ساقية مونكادة "Moncada"، وساقية طورماس"Tormas"K وقناة راسكانيا""Rascana، وقناة ميستالة"Mestalla"، ومسلاتة""Mislata، وقناة فبارة "Fabara"، وقناة فيتمار"Faitamar"، وساقية قوارت "Cuart"، ساقية روبيةRobe""، وقناة بناتجر""Benatger
محكمة المياه في فالنسيا
وتتألف هيئة المحكمة من ثمانية قضاة بعدد سواقي النهر، فهم وكلاء السواقي، والمكلفون بتوزيع المياه على المستفيدين، وينتخبون بالاقتراع العام من بين المرشحين من أصحاب الأراضي لمدة سنتين قابلتين للتجديد، ويشترط فيهم الخبرة والممارسة للنشاط الزراعي، وليست الملكية وحسب.
أما رئيس المحكمة فيتم انتخابه من بين القضاة الثمانية المذكورين، ولابد أن تتوافر فيه عدة شروط، منها أن يكون ذا سمعة طيبة، ومعروفا بين المزارعين، وأن يكون صاحب أرض يفلحها بنفسه.
وتنعقد المحكمة كل خميس أمام باب الكاتدرائية "الذي كان مسجدا فيما مضى" لتفصل في قضايا المياه، ويقوم عادة الحارس الأكبر لكل ساقية بتقديم الدعوى بناءً على طلب المُدعى الذي يعتبر نفسه مظلوما فيقدم الاستدعاء، ويحضر المُدعى والمدعى عليه أمام المحكمة، ويجوز إحضار الشهود، والكشف عن الحوادث في المكان نفسه، وبعد تداول يجرى بصوت منخفض بين أعضاء المحكمة يُعلن الرئيس الحكم، وهو غير قابل للاستئناف.
محكمة المياه في فالنسيا
سقوط فالنسيا في يد الإسبان
وحين سقطت بلنسية عام (636هـ/1238م) على يد ملك أراجون خايمى الأول أبقى على النُظم المائية التي طبقها المسلمون فيها، وعلى رأسها محكمة المياه، فقد ورث الإسبان الأرض عن المسلمين، وورثوا معها المنازعات على مناوبات الري، فقد كانت عملية تنظيم الري بالنسبة للمجتمع المسلم وسيلة لتوفير لقمة عيش المجتمعات الريفية في بساتين الضواحي عبر توجيه الإنتاج الزراعي إلى السوق، في حين كان ينظر المجتمع الإسبانى الجديد إلى الري باعتباره مفتاح زيادة المحاصيل، وهو ما يعنى في المقام الأول زيادة المحاصيل من أجل التسويق وارتفاع قيمة الإيجارات الزراعية لتدخل في خزائن الكونتات واللوردات.
ولاشك أن محكمة المياه بتنظيمها السابق إنما يستند إلى الروح العربية الإسلامية، التي أرست قواعد المشاركة، ونفى الضرر، وقد ذهب بعض المستعربين الإسبان - مثل خوليان ريبيرا - إلى عدم عروبة محكمة المياه، مستندين في ذلك إلى عدم إشارة أي من المصادر العربية إليها.
لكن هذا الأمر مردود عليه بما أورده ابن عذارى من إسناد الخليفة الأموي الحكم المستنصر لوكالة "السُقيا" ببلنسية إلى اثنين من الفتيان الصقالبة، هما مظفر ومبارك؛ وذلك لمراقبة نظم الري، ويبدو أن هذه الوكالة كانت تُشرف على الري ومنشآته بالأندلس، إذْ نجد أن الخليفة الحَكم قد أمر بإصلاح قناطر الأندلس، فبدأ بقنطرة سرقسطة بشمال الأندلس، وذلك في عام (354هـ/965م)، وذكر ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" أن الخليفة قد أسند "خطبة الري" إلى الفقيه عبد الملك بن المنذر.