تناول الأحداث السياسية الراهنة أشبه برمية نرد، أو مقامرة غير مضمونة العواقب، يختلط فيها الثابت بالمتحول.
والثلاثاء الأمريكى العظيم، الخامس من نوفمبر 2024 يخضع لهذه المقامرة، مع نهايته قد لا يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض، ومن فاز، حقًا، بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، “الثابت” كامالا هاريس أم “المتحول” دونالد ترامب، ومن حصد الأغلبية فى مجلسى النواب والشيوخ، الجمهوريون أم الديمقراطيون، فإعلان النتيجة لا يعنى أنها الحقيقة الدامغة.
كما يقال، وراء الأكمة ما وراءها، فالفائز أو الفائزون يمرون عبر قناة ضيقة، حسب الطريق التى ستختارها أمريكا فى عالم يرقص تحت قدميها، مع الاعتذار لسلمان رشدى، وروايته “الأرض تحت قدميها”.
كان يمكن أن تجرى هذه الانتخابات كميراث أمريكى ثابت ومحفوظ، يتبادل فيها الحمار الديمقراطى والفيل الجمهورى مقعديهما فى لعبة سياسية سابقة التجهيز.
كان هذا ثابتًا، لكنه تهشم الآن بفعل المغامرة، والتوسع، وضم أعضاء جدد للنادى الأمريكى بالقوة العسكرية، يؤثرون ويـتأثرون بما يجرى هناك، وهى ليست العولمة، إنما هى التماهى فى الحالة الأمريكية.
أرض الأحلام ليست فى أحسن أحوالها، فثمة انقسام حاد بين اليمين الأبيض، وبين اليسار متدرج الألوان، ولن تعود الحالة المعتادة مرة أخرى.
يكاد الناس خارج أمريكا يدلون بأصواتهم مع الناخبين، فثمة من يرغب فى عودة ترامب، وثمة من يدفع بهاريس.
تختلف الرغبة، فمن يرغب فى وجود ترامب ينتظر أن يفى بوعده، وقد وعد بمغادرة مسارح العمليات العسكرية، والانسحاب من ظلال الحرب العالمية الثانية، ومنع حرب عالمية ثالثة تقترب.
بينما من ينتظر هاريس يتمنى أن تسير الحالة الأمريكية كالمعتاد على خطوط مرسومة، تبدأ من الاختلاط بمشكلات العالم، وتنتهى بترتيبه على الطريقة الأمريكية الموروثة، بنشر مزيد من الأساطيل والمدمرات حول العالم، وتوالد الحروب واحدة بعد أخرى على الطريقة الديمقراطية!
خطوط هاريس معروفة وجاهزة، والسير عليها ليس فى حاجة إلى كاريزما، بل إلى الالتزام بالخطى المرتبة، فثمة مراكز تفكير تشخّص الداء، وتعطى الدواء.
اطمئنان المريدين والحلفاء لهاريس مشروع وجائز، والخوف من ترامب مشروع وجائز أيضًا، فالرجل لا يشبه النخبة فى بلاده أو خارجها.
مادام الاطمئنان لهاريس إلى هذه الدرجة، فإن التوقف عند محطة ترامب واجب فى هذه الساعات التى تسبق الثلاثاء الأمريكى الأخطر فى العصر الحديث.
لا شك أن غرف الطوارئ تعمل ليل نهار، وتضاء المصابيح الحمراء فى عواصم الحلفاء والخصوم، خوفا من الفيل الجمهوري، فالغضب سيجتاح حلف الناتو، والاتحاد الأوروبى، وبعض الجماعات التى كان ترامب يعدل بينها فى التصفية، وقد فعل شيئا غير متفق عليه أثناء فترته الرئاسية الأولى، وأقدم على تصفية قائد فيلق القدس الإيرانى قاسم سليمانى، وزعيم تنظيم داعش أبوبكر البغدادى، المتناقضين فى المسار والأهداف.
من يدرك مغزى هذه التصفية المزدوجة يعرف أن ترامب أقدم على فعلته دون العودة إلى النصوص الأمريكية المحفوظة، أى إنه خرج عن النص، كما فعل مع كوريا الشمالية، وروسيا، والصين، وحلف الناتو، وتايوان.
وفى عودته الشاقة المؤكدة سوف يخرج عن أكثر النصوص الأمريكية قدسية، وهى الامتناع عن الغزو، وفعل الثورات الملونة، وثقافة أخطر دولة أو رجل يهدد السلم العالمى، تلك الثقافة التى تتبناها أمريكا حين تفكر فى الانقضاض على بلد أو شخص، والسلسلة طويلة لا نكاد نصل إلى نهايتها.
وأمريكا الآن فى مفترق طرق، تقف حائرة بين الخطرين، تشبه شخصا يجلس فى الظلام، كما قال مارتن لوثر كينج، والخروج عن النص ممنوع، تخشى أن تضع بيضها فى سلة ترامب، وتخشى أن تجرب امرأة ملونة فى البيت الأبيض، تجتر سياسات جو بايدن.
تبدو أمريكا فى قسوة الاختبار، وقد حسمت أمرها بعودة الذى جربته من قبل.