Close ad

حدث بالفعل.. المظهر والجوهر

4-11-2024 | 14:46

في أحد الأيام أثناء عملي في جامعة برجن بالنرويج، أخبرنا المدير أن حفلًا سوف ينظم على شرف استقبال عمدة المدينة، وأننا مدعوون لحضور الاحتفال، لم يكن من الصعب أن أقرر ما سوف أرتديه في تلك المناسبة، لكن لحداثة عهدي بالمكان وعدم درايتي الكافية بتقاليدهم وعاداتهم ذهبت إلى أحد الأساتذة النرويجيين من زملاء العمل وسألته عن الزي المناسب لحضور تلك الاحتفالية، فنظر إلى ملابسي وقال هذا ممتاز.

كنت أرتدي في تلك اللحظة جاكت طويلًا؛ للحماية من الصقيع والأمطار، وحذاءً ضخمًا؛ للحماية من الانزلاق على الثلج، وكوفية وطاقية. نظرت إلى نفسي وقلت له: هذا ممتاز! كيف؟ أعتقد أن هذا الزي غير مناسب. قال لي: حسنًا يمكنك ارتداء جاكت بدلة بدلًا من هذا الجاكت. نظرت إلى نفسي مرة أخرى وتأملت ملابسي وقلت له: جاكت بدلة فقط؟ قال: نعم، إذا أردت بالطبع. سألته: هل أنت متأكد؟ ابتسم وقال لي: يا صديقي لقد اخترنا منذ زمن بعيد الاهتمام بالجوهر وليس المظهر.

ولا أبالغ حين أقول بشعوري بالحرج الشديد أنني قد أضعت وقت الرجل في حديث ليس له معنى بالنسبة له، ولا لي أنا أيضًا إذا كنا قد تعودنا وضع الأمور في مكانها الصحيح. 

موقف آخر مع المدير النرويجي. عندما كنت استعد للعمل في النرويج اشتريت بالطو طويلًا لمواجهة الصقيع الرهيب غير المعتاد الذي يجتاح النرويج خلال الشتاء. وعندما ذهبت اكتشفت أنني لست بحاجة إليه، وأن جاكت عادي ثقيل سوف يفي بالغرض، فاشتريت جاكت. وبعد فترة من تعارفنا أردت أن أبدي لفتة طيبة مع المدير الذي كان يرتدي قميصًا وبنطلونًا وبلوفر لا يغيرها طوال الأسبوع، بالطبع سوف يسعد إذا أهديته هذا البالطو الجديد الذي لم ارتديه.

أخبرته برغبتي في إهدائه هذا البالطو، فأبدى سعادة كبيرة كنت أتوقعها من مظهره البسيط، طبعًا هذا البالطو غالي الثمن سوف يجعله من الوجهاء في الجامعة. في اليوم التالي أحضرت البالطو وأعطيته له، وظل يشكرني على هديتي ويمسك بيدي، كأن أحدًا لم يهده شيئًا طوال حياته، لدرجة أنني كدت أبكي لفرحته بهديتي المتواضعة، وحمدت الله أن وفقني لإدخال الفرحة والسرور على هذا المسكين. 

لكن الغريب أنني لم أره يرتدي هذا البالطو ولا مرة واحدة بعد ذلك، وكلما مررت بحجرته وجدت البالطو معلقًا على الشماعة كما وضعه أمامي، إلى أن جاء يوم واختفى البالطو تمامًا من حجرته دون أن أراه يرتديه أيضًا! كنت أود أن أسأله لماذا لا يرتديه؟ لكن لم أفعل حتى لا أحرج الرجل، فربما باعه ليستفيد من ثمنه، أو ربما أعطاه لأحد أبنائه يتباهى به أمام زملائه في العمل.

ثم جاء يوم ودعانا المدير إلى العشاء في منزله، أقصد القصر الذي يسكن فيه، وعرفت أن الرجل من الأثرياء. وعندما وقف يلتقط لنا صورة في منزله كان يحمل كاميرا ثمنها آلاف الجنيهات. كل شيء في منزله كان يدل على الثراء، لكن مع البساطة أيضًا. بعد تناولنا العشاء سألني عن هواياتي فقلت له القراءة والموسيقي. قال: هذا نفعله جميعًا.. أنا أقصد هواية منتجة.. قلت له: ما معنى ذلك؟ قال: أنا مثلًا هوايتي النجارة وعندي ورشة في منزلي هذا، وعلى فكرة الكنبة التي تجلس عليها من صنعي. نظرت إليه وإلى الكنبة، ولا أخفيكم سرًا أنني قد شعرت لحظتها باستحياء وربما بضياع كثير من وقتي دون شيء ملموس أفعله على مدى سنوات طويلة.

وتتعدد مواقف المظهر والجوهر مع مديرنا النرويجي. قررت الجامعة تنظيم ما يسمي Bergen Summer research School وهو حدث يستضيف باحثين من مختلف أنحاء العالم لتبادل الآراء وعرض الأبحاث العلمية. المهم أنني ذهبت في اليوم الأول لأجدهم يعطونني حقيبة قماش صغيرة بها بعض الأوراق، نعم هي تلك الحقيبة التي انتشرت حاليًا وبات سعرها غاليًا! وفي موعد الغداء أعطوني ساندوتشًا! هذا شيء لم أعتده في مثل تلك المناسبات، المفترض – في تلك الفترة - أن أتسلم حقيبة جلدية محترمة، ناهيك عن البوفيه المفتوح الذي لا ترى أوله من آخره. قلت لنفسي ربما إمكانات المؤتمر لا تسمح بذلك، وربما سوء تنظيم من اللجنة المسئولة عن المؤتمر.

وقابلت المدير وقلت له على فكرة عندما ترغبون في تنظيم مؤتمر مهم أخبروني، يمكنني المساعدة. وكأنه قد قرأ أفكاري فابتسم ثم قال: على فكرة يا صديقي لقد حضرت الكثير من المؤتمرات في القاهرة، وأعلم أن لديكم استعدادات كبيرة لتلك الأمور، لكن أعتقد أن الاهتمام بالمضمون هو الأهم. 

ومرة أخرى أشعر بلطمة شديدة على وجهي، خاصة عندما لاحظت حرص الموجودين الشديد على حضور المحاضرات والمشاركة في النقاشات والاستفادة بكل لحظة وكل كلمة، وتعلمت الدرس.

كلمات البحث
الأكثر قراءة