لم يسلم استخدام نظرية المؤامرة في تفسير العلاقات الدولية من توجيه انتقادات حادة له، ويتم توظيف ذلك من قبل مختلف أصحاب النظريات التي تُخدم على مصالح الدول الأقوى في ساحة العلاقات الدولية على الأصعدة السياسية والاقتصادية.
موضوعات مقترحة
وذلك لتفويت الفرصة على الدول المستهدفة ومثقفيها وباحثيها لشرح وتفسير الأحداث، التي يمكن أن تنطلق من فرضيات صحيحة، وتخلص بنا إلى نتائج دقيقة فيما تتعرض له دول الجنوب الأقل حظًا على سلم التنمية، من عمليات ممنهجة للحد من قدراتها على تحقيق التنمية المستدامة لشعوبها، وسعيها لتوفير أكبر قدر ممكن من الرفاهية والتقدم والحياة الكريمة لمواطنيها، وكذلك الحفاظ على قدرات الدولة الوطنية وأهدافها بما يحقق مصلحتها القومية.
أركان المؤامرة
ترى الكتابات الرافضة لنظرية المؤامرة أن هناك عددًا من الافتراضات الحاكمة لها تهدم النظرية بالكامل؛ أولها أن هناك شخصًا أو أشخاصًا، قوة سياسية أو اقتصادية، جماعة أو مؤسسة، دولة أو إقليمًا ما له أفضلية على ما عداه من أشخاص أو قوى أو جماعات أو دول. ويمتلكون بحكم عوامل مختلفة، مقومات للنجاح والتأثير فيمن وفيما حولهم بشكل يهدد توازنات القوى المختلفة الموجودة بالفعل.
الافتراض الثاني يتعلق بالآخر؛ سواء كان شخصًا أو قوى أو جماعة أو دولة أو إقليمًا، والذي في محاولته للحفاظ على التوازنات الموجودة يتآمر بشكل دائم ومستمر لإفشال الطرف الأول. حيث يعد هذين الافتراضين مسلمتين أكثر من كونهما افتراضين علميين. ففي هذا الكون الفسيح هناك كيانات تمتلك مقومات للتأثير فيمن حولها، وهناك كيانات أخرى لا تتسامح مع هذه المحاولات، وترغب في الحفاظ على الوضع القائم.
الافتراض الثالث هو أن أي فشل للطرف الأول إنما هو سبب لتآمر الأطراف الأخرى عليه، فهو لا يجد تبريرًا للفشل في اتخاذ قرار أو تنفيذ سياسة إلا تآمر الآخرين، ولا سبيل للنجاح إلا إذا توقفت المؤامرة وهو أمر بطبيعة الحال لن يحدث، ومن ثم يمكن توقع النتيجة، الجميع يكرهوننا ويبذلون جهدًا في إفشال محاولاتنا للتقدم، وهو ما يفسر عجزنا وتأخرنا بالرغم من كل مقومات النجاح التي نمتلكها.
النظرية بهذا الشكل تستحق الهجوم عليها من قبل الباحثين في نظم الحكم والعلاقات الدولية، على اعتبار أنها في حقيقة الأمر تخالف النظريات العلمية لكونها تبدأ من مسلمات ويقينيات وقناعات لا سبيل لاختبار صحتها.
واقع الأمر، أن كل ما سبق، لا ينفي أن مستخدمي نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث ومسار العلاقات الدولية، يرون أنها تقوم على افتراض وجود مجموعات بعينها قادرة على التحرك في الخفاء لحماية مصالحها في منطقة أو قضية بعينها.
الشائعات - صورة تعبيرية
وبالتالي فالنظرية، وفقًا لذلك، تعلي من قدر الفاعلين أو الوكلاء agents الذين قد لا نعلمهم بالضرورة، وبالأساس، تعني فكرة الوكالة، بمعنى أن طرفًا خارجيًا (الراعي) يفوض (وكيلًا) للقيام بمهام ما لتحقيق مصالحه دون حضوره أو تواجده في المشهد مباشرة. وهي علاقة تبنى على توافق أهداف الطرفين، بحيث يحقق الراعي أهدافه الخبيثة من استخدام الوكيل أو العميل أو الفاعل أو الناشط، ويحقق الأخير أيًا كان مسماه المكاسب التي ينشدها. وانبثق عن تلك الفكرة -التي انتقلت من علوم الاقتصاد والإدارة والتسويق إلى حقل العلاقات الدولية- مفهوم "الحرب بالوكالة"، كمكون رئيس في حروب الجيل الرابع، وهي إستراتيجية بديلة أقل تكلفة للحروب المباشرة بين الدول؛ حيث تشير إلى صراع بين قوى خارجية على المصالح والنفوذ، يتم خوضه بشكل غير مباشر على أرض دولة ثالثة (دولة الهدف)، عبر استقطاب أطراف محلية موالية لمصالحها في مواجهة أخرى معادية لها، وفي أحيان كثيرة قد يلجأ الراعي والعميل حال نجاح مخططه في إثارة الفوضى، إلى استخدام مرتزقة من الميليشيات المسلحة للإجهاز على ما تبقى من مؤسسات الدولة.
في هذا الإطار، نجد أن نظرية المؤامرة هي الأقدر على تقديم قراءة الصورة الأكبر والأعمق للمشهد، ومحاولة اكتشاف العلاقات والتشابكات بين الأطراف المختلفة في الصراع أو الأزمة محل الدراسة، من خلال البحث العلمي عبر تجميع وتوفير أكبر قدر من المعلومات بشأنها، وبهذا المعنى تصبح اجتهادًا علميًا لاستكمال الناقص من المشهد، ولإعطاء معنى للمعلومات غير الواضحة أو غير المترابطة، أو غير الموجودة أصلًا. فالذين يبذلون قصارى جهدهم لنفي استخدام نظرية المؤامرة كمنطق تفسيري للأحداث والوقائع، لا ينبغي عليهم نكران أن هنالك إطارًا يتغير بتغير طبيعة الزمان والمكان والشعوب والدول المستهدفة، ويحرك كثيرًا من الأحداث السياسية والتاريخية، والتي يتحتم علينا الوقوف عليه ومعرفة دقائقه، ولا ينبغي أن نفترض بالآخرين أنهم يستهدفون الخير العام للبشرية، ففكرة المصالح الخاصة هي التي تحرك سياسات الدول على حساب (الدولة الهدف)، وتحكم الإطار العام المفسر لتحرك العلاقات الدولية نحو التعاون أو الصراع. والقائم على التخطيط يكون متحكمًا في أهداف وفي غايات الأدوات التي يحركها على الأرض، دونما أن تكون على دراية بالمستهدف النهائي لخططه، والتي قد تكون بنفيها لوجود نظرية المؤامرة من أدواتها.
فالثابت وفقًا لما سبق، أن علاقة المؤامرة بالسياسة علاقة وثيقة، إلى الحد الذي يمكن اعتبار السياسة والمؤامرة وجهان لعملة واحدة، حتى أنه من الصعب أن نجد سياسة بلا مؤامرة ولا مؤامرة بلا سياسة.
ولطالما أن المنطقة العربية تعتبر منطقة مصالح غربية، لذا فالعلاقة بين الجنوب والغرب إما علاقة تنافسية تفاوضية سلمية أو علاقة صراعية، أو سلم مشوب بالحذر، ولما كان الغرب اختار الثانية بصورة غير مباشرة، ألا وهي علاقة الصراع، فالصراع في غالب الأمر ينطوي على مؤامرة، فلا يمكن إنكار انتفاء المؤامرة بحق الوطن العربي أحد أهم أقاليم الجنوب وفي القلب منه على مر التاريخ الحديث والمعاصر الدولة المصرية.
أدوات المؤامرة
ولعل نجاح أو فشل أية مؤامرة خارجية مرهون بتوافر المساعدات والأدوات الداخلية، لذا فالتآمر الداخلي في أي بلد أقوى من التآمر الخارجي، لكون نجاح التآمر الخارجي أو فشله يعتمد على عملائه في داخل البلد المتآمر عليه. وهنا، ينبغي علينا أن نتساءل ما هي الأدوات الرئيسية التي يرتكز إليها في تنفيذ مخطط أي مؤامرة؟.
على أرض الواقع، نجد أن هذه الأدوات قد تغيرت وتبدلت منذ مطلع القرن الماضي وحتى وقتنا هذا، وبعد أن كانت أدوات تنفيذ المؤامرة تعتمد على القوة الصلبة، وما يمكن أن يصحبها من حروب نفسية ومعنوية لهزيمة إرادة الجيوش الوطنية والشعوب، باتت اليوم ترتكز على ما نعرفه بالجيل الرابع وما تلاه من أجيال من الحروب، وهو الجيل الذي تتيح له الثورة السيبرانية الهائلة والثورة التكنولوجية، أن يتطور إلى أجيال متعاقبة تمكن المتآمر من تحقيق مآربه بصورة أكثر بساطة ويسرًا. وبعد أن كانت الدول المتآمرة تتحمل تكلفة عالية للتخطيط للحروب العسكرية المباشرة وتحريك القوات، ثم تحمل نفقاتها والأسلحة أثناء العمليات، وما تتكبده من خسائر بشرية ومادية، نجدها اليوم قد تمكنت من أن تخفف عن كاهلها كافة هذه التبعات، وأن تتوجه مباشرة عبر استخدام الوكلاء والعملاء في الداخل والخارج من أبناء الوطن لتنفيذ مخططاتها، عبر ما توفر لهم من قدرات تقنية وتكنولوجيا اتصال وفضاء كوني يحيل ما هو افتراضي إلى واقع ملموس، ويزيل الحدود بين الدول.
ما سبق، جرى تعريفه بالعولمة، تلك التي حولت العالم الكبير إلى قرية صغيرة، وأزالت المساحات الجغرافية والزمانية، وجعلت هناك سيولة شديدة في انتقال الأفكار والثقافات بين الأفراد. وإن كان ما سبق غرض نبيل في ظاهره، إلا أنه مكن (المتآمر) من أن يصل إلى مبتغاه في (الدولة الهدف)، في محاولاته المستمرة لتحقيق التفوق في الصراع التاريخي لاستمرار استغلال الجنوب المتأزم، وإلحاق الهزيمة النفسية والمعنوية بإرادة الشعوب، وتزييف وعيها، وجعلها تنحرف عن رؤية مصلحتها القومية وأهدافها الوطنية، وأن تكون متصدرة المشهد بمحاولات تثويرها المستمرة وهي مسلوبة الإرادة، لكي تكون على رأس مخططات نشر الفوضى في مجتمعاتها. ولما لا، والمتآمر قد تمكن من عقلها، وبات متحكمًا ومنمطًا لسلوكها وفقًا لإرادته، إلى الدرجة التي يمكن أن تمثل فيها مصلحته خصمًا من رصيد الأمن القومي الشامل للدولة الهدف.
الشائعات - صورة تعبيرية
هنا، يمكن لنا أن نطلق على هذا النوع من الأفراد الذي يصبحون أسرى لهذا النوع من الحروب "المواطن الرقمي السلبي"، وهو النوع الذي لم يستفد من ممارسة حقه في الاستخدام الإيجابي للثورة التكنولوجية في التعلم، ونقل الخبرات الثقافية المنفتحة، وزيادة قدرته على البحث العلمي الإيجابي، واقتصر دوره على أن يكون متلقيًا لكافة ما يتم تصديره له عبر شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت" من قيم سلبية، وسلوكيات خاطئة، ومفاهيم حياتية غير منضبطة، وتجارب ليس بالضرورة أن تنطبق مع الواقع الذي يعيشه في نطاق دولته الوطنية.
بحيث أصبح نسخة مشوهة فاقدة لكل معايير القيم والانتماء للهوية الوطنية التي تشكل جوهر لُحمته الوطنية، وغير مدرك للمخاطر والتهديدات في المحيط الأبعد منه، ومقبل بسلوكياته الفوضوية لتدمير الأهداف الإستراتيجية القومية، كنتيجة حتمية لكونه أداة أجاد توظيفها واستخدامها المتآمر عليه وعلى دولته. هذا المواطن يدفع ثمنًا غاليًا لدولة تقدمت سريعًا في مجال تكنولوجيا المعلومات، ووفرت البنية الأساسية اللازمة بتقنياتها المختلفة لكي تندرج ضمن منظومة الدول الرقمية في الفترة التي سبقت أحداث 2011، وذلك دون الالتفات لمخاطر أمرين؛ أن هذا التطور قد صاحبه تأسيس ما يعرف بـ "المجتمع الشبكي"، والآخر أن الأفراد داخل هذا المجتمع لم يتم بناؤهم ثقافيًا ومعرفيًا بما يوفر لهم الأدوات التحصينية اللازمة لإجادة التعامل مع هذا المجتمع الشبكي، وعدم الوقوع في سلبيات اندماجهم السريع فيه، في ظل تراجع مستويات المعرفة والثقافة والقدرة على البحث والتدقيق، بما يقوده للميل إلى تصديق أية شائعات أو أمور غامضة يتم تصديرها إليهم.
لعل ذلك ما ساهم كثيرًا في أن يتحول العالم الافتراضي وأهدافه في المجتمع الشبكي إلى واقع، سهُل من خلاله أن تحل وسائل التواصل في العالم الافتراضي مثل فيسبوك وإكس محل وسائل الإعلام التقليدية، وأن تكتسب هذه الوسائل الافتراضية مصداقية كبيرة لدى الجمهور المستهدف في (الدولة الهدف)، وذلك في ظل عدم قدرة الوسائل التقليدية المهنية والرصينة والعلمية على ملاحقة كل هذه السرعة والتقنية الكبيرة، التي باتت توفرها الطفرة الهائلة في تكنولوجيا الاتصال وبرامج الإخراج (التزوير) الفني، وبما تتيحه من قدرة على نشر الخداع والأخبار المزيفة والمغلوطة.
فهذه المجموعة من الوكلاء أو العملاء للراعي، تلقت من التدريبات ما يكفي لكي تكون القائد في مجتمعاتها، ولكي تنقل وتشكل ما يعرف بـ "الثقافة السيبرية المشتركة"، وتمكنت عبر مراحل مختلفة من أن تنقل مواطنيها من الاعتماد على وسائل إعلام رصينة ومهنية لديها من القواعد ومواثيق الشرف -ينبغي أن تكسبها المصداقية الدائمة لدى الجمهور- لكي تكون محل شك دائم، وأن تكون مرفوضة وغير موثوق بها، فيما يعرف بمعركة "الخصم بالنقاط" في حرب طويلة الأجل تجاه (الدولة الهدف).
الشائعات - صورة تعبيرية
هنا، يكمن نجاح هؤلاء الوكلاء أو العملاء في تشكيل ثقافة مجتمعهم شبكيًا، وتغييب وعي المواطن وتوجيهه على غير أهداف ومصلحة الدولة الوطنية. وهذا هو الجانب السلبي للثورة السيبرانية والإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات والهواتف الذكية، الذي تم من خلاله اختراق الوعي في مجتمعاتنا، حيث اجتهدوا في هذا الإطار لتصدير وتعميم الإعلام البديل، وهو في الغرب الإعلام الرقمي، والذي يأخذ أشكالًا أكثر مهنية وله من القواعد التي تنظمه وتحكم أدواته ووسائله، إلا أنهم في ظل حالة الفوضى والصيرورة الثورية التي يصرون على تصديرها للمواطن في (الدولة الهادف)، فإنهم يطرحون عليه حربهم المعلوماتية والشائعات عبر الإعلام البديل، الذي هو إعلام منصات التواصل الاجتماعي، والذي يعتمد على نظرية (الإعلام الدوار)، من خلال إعادة تدوير مقاطع مما يتم بثه على القنوات الموجهة، التي تعمل على عكس أهداف الدولة الوطنية. ويؤكدون للمواطن المتلقي لهذا الإعلام المضلل أنه يمكن لكل مواطن أن يتخطى كل حدود الرقابة وهيمنة ومركزية الدولة، وأن يصنع إعلامه الخاص، ويحدد فيه أولوياته. وذلك دون الالتفات لكل ما يمثله ذلك من تكريس الذاتية، والمصلحة الفردية، وإعلاء الأنا الفردية، عن الأهداف الوطنية العامة، والمصلحة القومية، والمسئولية المجتمعية، ناهيك عن أن ممارسة الإعلام تتطلب دراسة والتزامًا بقواعد ومواثيق الشرف لممارسة المهنة بمصداقية.
هذا الإعلام البديل الذي يحاولون تسويقه وفرضه علينا، يعاني مجموعة من الإشكاليات؛ أولها، أنه إعلام عاطفي غير متخصص يعتمد على إثارة عاطفة الجمهور وعقله، باستخدام لغة مبرمجة تتناسب وثقافته، وطبقًا للهدف المراد تحقيقه، ولا يملون في ذلك من التكرار والتكرار والتكرار دون حتى أن يحققوا الهدف من العنوان الذي يتم وضعه كعنوان للمضمون والمحتوى الذي يعالجونه.
ثانيها، أنه إعلام يستغله الوكلاء والعملاء من أجل السيطرة على عقول البسطاء غير المدركين لحقائق الأمور، وتشويش إدراكه لإحكام مخططهم بتعجيزه عن ربط الأحداث القريبة والبعيدة بالأزمات التي يعيشها على نطاق مجتمعه، بما يمكنهم من إدارة سلوكياتهم وتنميط اتجاهاتهم بما يتناسب ومصلحة الراعي.
ثالثها، أنه إعلام نخبوي أحادي الاتجاه يعتمد على ثقافة التفاعل النقلي (القطيع)، حيث يكون مركز نشر الأخبار هو المتحكم في حين تكون الأطراف المهمشة البعيدة عن مركز إدارة العملية هي المهيمن عليها، ويقتصر دورها التفاعلي على النقل الذي كثيرًا ما يكون على غير وعي بخطورة مضمون ما ينقلونه ويرددونه.
رابعها، أنه إعلام فوضوي لا تحكمه قواعد ولا أخلاق ولا منظومة قيمية، وساهم كثيرًا في نشر منظومة ثقافية سلبية وتشويه حقائق تاريخية وعلمية، بالنظر إلى أنه لا يعتمد على أية قواعد علمية فيما يتم بثه ونشره من أخبار أو منشورات.
يقينًا نعود ونؤكد، أن نجاح أو فشل أية مؤامرة خارجية مرهون بتوافر المساعدات الداخلية من قبل العملاء والوكلاء، لذا فالتآمر الداخلي في أي بلد أقوى من التآمر الخارجي، لكون نجاح التآمر الخارجي أو فشله يعتمد على عملائه في داخل البلد المتآمر عليه. والمؤامرة في هذا الإطار تعبر عن وجودها أو عدمه بالأثر الذي تتركه، فكلما تعاظم الأثر زاد الشعور بوجود مؤامرة، وإذا انعدم الأثر أسقط الشعور والوعي الجمعي من حساباته وجود المؤامرة، رغم وجودها الحقيقي.
هنا، نجد أن الفكر العربي قد ضل الطريق في نظرته لنظرية المؤامرة بأدواتها التقليدية، لأنه لم يرتق إلى المستوى الذي يخلق أيديولوجيا، ومن ثم نظريات من شأنها تحصين الشعوب التحصين السليم القادر على إفساد مؤامرات الآخرين. فما بالنا ونحن اليوم نواجه مؤامرة على العقول تستخدم أحدث تقنيات الخداع البصري والسمعي، وتدار عبر أحدث وأسرع وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي، الذي تحول إلى الواقع بأيدي مجموعة من العملاء والوكلاء احترفت تزييف الوعي وتنميط السلوك باستخدام أحدث تقنيات التحليل التي تتيحها برمجيات التحليل النفسي على شبكة المعلومات الدولية. الواقع، أننا ظلمنا هذا المواطن خلال فترات طويلة سابقة، بعدم قدرتنا على توفير برامج حمائية ثقافية ومنحه حصصًا تعليمية عادلة تجعله مؤهلًا لكي يكون مواطنًا رقميًا فاعلًا، وذلك بدلًا من هذه الحالة التي أضحى عليها، والتي تتمثل أبرز ملامحها في كونه فاقدًا للهوية والولاء والانتماء. فالقيم التي تم تنميطها في عقله الذي لم يتم تحصينه بالقدر الكافي، تجعله هدفًا سهل الاصطياد لهجمات قد تستهدف نفسيته ومعنوياته لتدميرهما، وذلك لإفقاده الثقة في دولته ونظامه ومؤسساته.
الشائعات - صورة تعبيرية
حيث الثابت أن تفاعلات المجتمع الشبكي والتي ينخرط فيها المواطن، تضع هويته في أزمة كبيرة، فهو يتخاطب ويتحدث مع المجهول عنه، الذي يسعى بكافة الوسائل والتقنيات للسيطرة عليه وتنميط عقله وإدارة وعيه، يضاف لذلك أن تفاعلات المجتمع الشبكي بما تضمه من عناصر مجهولة الهوية، سواء في الدردشة أو المشاركة في الألعاب أو التطبيقات، دائمًا ما تضع المواطن الدولي الرقمي، في دائرة التفاعل مع المجهول، وتجعل هذا المجهول قادرًا على محو المركزية والقومية والوطنية التي يمكن أن تشكل ركائز وعي هذا المواطن.
فالكثير من الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية منذ منتصف الألفية الثانية مع بدء الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الافتراضي على المجتمع الشبكي، وعبر استخدام مجموعات تم تدريبها على استخدام هذه الوسائل بطرق ممنهجة، ووفقًا لخطاب مبرمج طبقًا لاحتياجات هذه المجتمعات حددتها قياسات إلكترونية ووفرتها برامج وتطبيقات خاصة على هذه الوسائل، إضافة إلى قدرة المجتمع الشبكي على إزالة الحدود القومية افتراضيًا، وقد خلقت جميعًا هذا النموذج من المواطن الرقمي الدولي غير المؤهل لا ثقافيًا ولا تعليميًا لمواجهة هذا التحدي.
كل ذلك يفرض علينا دعم جهود الدولة المصرية التي تنطلق من تنفيذ الرؤية الإستراتيجية للرئيس السيسي فيما يتعلق ببرامج إعادة بناء الإنسان، وتنمية قدراته، ومنحه حصصه وحقوقه العادلة في مستوى تعليمي متميز، وإقرار سياسة ثقافية وفنية وإعلامية تتناسب وسائلها مع آليات وأدوات الحرب المشنة علينا. على طريق طويل لتحصين المواطن المصري وتمكينه من امتلاك أدواته لمواجهة تحديات هذا النوع من حروب الجيل الرابع وما يليها من أجيال. خاصة أن الوكلاء والراعي قد جددوا من خططهم، لذا نجد أن الدعاية السوداء قد نجحت في استمالة قطاعات من الصفوف الوطنية من ضعيفي الثقة والإيمان بمعركة الوطن.
بحيث عاد حامل الراية الكاذبة ليتصدر المشهد، ويحاول أن يُقنعنا بصوته العالي، وأن يضرب بشائعته مجددًا، محاولًا إصابة معنويات المصريين ونشر اليأس وبث الإحباط. وحامل الراية الكاذبة هذا، تجد أن من سماته أنه يعبد شخصًا، يعبد جماعة، يعبد دولارًا أو ريالًا أو دينارًا أو فرنكًا، لكنه لن يعبد الوطن عمره. وستجده بين من اعتاد الظهير الوطني الشعبي الداعم للدولة عبر منصات التواصل الاجتماعي أن يطلق عليه أنه من شمامي الكُلة، أو من النكسجية المنتمين للمذاهب الفوضوية المتشحة بالليبرالية وبأفكار اليسار، أو من المنتمين للتنظيم الإرهابي أحفاد البنا وقطب، أو من هؤلاء الذين حاولوا الاقتراب من الرئيس لتحقيق أي استفادة مادية أو معنوية أو مكانية فوجدوا الطرق مغلقة فعادوا وقالوا فلنخربها على الجميع.
فبعد إفشال الجولة الأولى لاستهدافهم الدولة في يناير 2011، والتي وضعوا فيها كامل طاقتهم، لم يتبق لهم من أدواتهم سوى الإرهاب، ولما فشلت قنابلهم وسفكهم دماء الأبرياء في كسر عزيمة الشرفاء والأغلبية العظمى من الشعب، لم يجدوا في عقولهم الخاوية سوى العودة إلى الماضي وإعادة إنتاج الحرب الفكرية والكلامية وترديد الأكاذيب والشائعات.
الشائعات - صورة تعبيرية
ماذا يحدث الآن؟
إنهم قليلو الحيلة والقدرة العقلية على الابتكار، فلجأوا إلى الخطة البديلة Plan B أو الأهداف البديلة Alternative Goals مستغلين ضعاف النفوس من أطراف الكتلة الصلبة للظهير الشعبي الذي تصدى لمحاولات هدم الدولة المصرية فيما سبق. فبدأوا يعيدون خلق الأخطاء والمشكلات والأزمات وفقًا لسيناريوهات محكمة أعدتها أجهزة المخابرات والمعلومات التي توظفهم، في محاولة لإعادة إنتاج الفوضى الفكرية والكلامية والمهاترات من 2005-2011 من خلال:
1 - نشر الفتن الدينية والعقائدية والتشكيك المستمر.
2- تصعيد الحرب المعلوماتية المعتمدة على الشائعات، من خلال برامج وإنتاج إعلامي سطحي وتافه، من خلال أحاديث التافهين ومعهم العديد من الذين يلعبون دور الكومبارس في القنوات العميلة الموجهة، ليؤكدوا صحة هذيان وفبركات وأكاذيب التافهين الدجالين، والهدف هو اصطياد المشاهد في فخ أن السحر والشعوذة الذي يتم بثه هو أساس الحياة، وإدخال المتلقي في الظلاميات والجهل لسهولة السيطرة عليه وإضعاف وعيه.
3 - التركيز الدائم على السلبيات، وصناعة الأخطاء الوهمية، ونشر فكرة «فشل الدولة» بصفة دائمة، والخلط بين «الدولة» ككيان حضاري تمثل وطنًا يجمعنا، وبين «الجهاز الحكومي الإداري» كجهاز بيروقراطي إداري يمكن أن تكون في سياساته بعض الأخطاء كنتيجة طبيعية لكونه يعاني من الجهل والتخلف والفساد والإهمال وانتشار كافة أشكال الأمراض المجتمعية التي نعاني منها جميعًا به، وهو ما تعاني منه للأسف الكثير من قطاعاته.
4- السخرية والتقليل من شأن أي عمل إيجابي أو مفيد للناس، سواء من المسئولين في السلطات العليا الثلاثة للدولة، أو من المسئولين، ونشر فكرة أن المجتمع كله فاسد، ولا أمل فيه. وهذا خطأ منهجي يعرف بـ«التعميم المفرط»، لهذا تجدهم يستخدمون النسب المئوية المبالغ فيها من عينة: «90% من اللى بيعملوا مشاريع صغيرة بيفشلوا» «يا عم ده مفيش أمل في أى حاجة وكل المشروعات فنكوش»، ويتغافلون عن عمد كل هذا الكم من الإنجازات التي تتحقق يومًا تلو الآخر على الأراضي المصرية.
5 - استقطاب القدوة، وتتم عبر تجنيد نجم سواء كان لاعب كرة قدم أو فنانًا أو صحفيًا أو إعلاميًا أو سياسيًا، ومع كامل الاحترام لكل المهن ولكل الأدوار في المجتمع، ولكن هؤلاء الدخلاء لا موهبة لهم ولا رسالة، وإنما ناشرون لكل القيم المعادية للدولة تحت ستار النجومية والتدين والحريات.
6- اللعب على العاطفة الدينية، بإطلاق دعاوى تجعل الشخص في حالة دفاع وإحراج دائم بين دينه ووطنه.
حاملو الراية الكاذبة، يرفعون في قلوبهم رايات لأفراد، أو لدولة أخرى، أو جماعة، ينفذون عملياتهم التخريبية ثقافيًا وإعلاميًا وإرهابيًا، حتى إذا ما تم رصدها لا يتم التعرف على هوية محركها الحقيقي. هم يقودون حروب الخداع وتوجيه تحركات الشعوب ضد أوطانهم بالأكاذيب الضخمة التى إذا تحديتها وفضحتها، قالوا عنك إنك أنت الكاذب، حتى تتكشف الحقائق تباعًا، كما هو حادث الآن في مكاشفة الحقائق المتعلقة بدفعة الشائعات المركزة التي أطلقوها خلال الأيام الماضية للتشكيك في الثوابت المصرية الشريفة في التعامل مع القضية الفلسطينية، والمعالجة المصرية الرشيدة لتداعيات خطوات حمقاء أضرت كثيرًا بحقوق الشعب الفلسطيني وتكاد تنسف القضية برمتها، ولكن الدولة المصرية وقائدها التاريخي ما زال يملك الكثير من الأدوات التي ينفذها بمعاونة مؤسسات وأجهزة الدولة لوقف مخطط القضاء على القضية الفلسطينية بما يهدد الأمنين القوميين المصري والعربي.
الشائعات - صورة تعبيرية
حاملو الرايات الكاذبة يستخدمون البروباجندا «الدعاية السوداء والرمادية» التي تسهلها مواقع التواصل الاجتماعي للتأثير على الوعي والمزاج العام للمواطن، والبروباجندا هي ببساطة مجموعة المعلومات والأفكار والشائعات والأكاذيب التي يتم نشرها بعد دراستها بعناية وترتيبها لتناسب ثقافة الشعب الموجهة إليه. وقد سهلت منصات التواصل الاجتماعي نشرها على أوسع نطاق، لإحداث أكبر ضرر على أرض الواقع، وتشتيت اتجاهات الرأي العام ضد ثوابت وطنهم، بما يلحق أقصى درجات الضرر بالأفراد والمؤسسات والاقتصاد والوطن. ويزداد تأثير الشائعة كلما كانت صادرة عن أهل ثقة من الذين ارتدوا عن مبادئهم، أو من النجوم المستقطبين كما تمت الإشارة لهم.
المشكلة هنا، أن حاملي الرايات الكاذبة قد عادوا للتأثير في توجهات قطاعات من الصفوف الوطنية، الذين يمكن القول أنهم مهتزو الثقة والإيمان بالمعركة التي يخوضها الوطن. يعودون مجددًا للتلاعب بهم دون أن يدروا، لأنهم انخدعوا مجددًا، ولم يتبينوا أن من يقوم بتحريك هؤلاء الوكلاء ودس البروباجندا في عقولهم هو العدو، والكل رأى في موجة الشائعات الأخيرة دور المتلونين الجدد والقدامى، وهم يؤدون مهمة محددة تم تدريبهم عليها في سياق بروباجندا حروب الجيل الرابع. والبروباجندا تستهدف الافتراء وتشويه السمعة، حتى الوصول بك للتشكيك في دينك وبلدك وقياداتك، والسخرية من موروثاتك من عادات وتقاليد ولغة، والهدف هو توجيه الناس وصياغة وعيهم وهدم معتقداتهم وأفكارهم، لسهولة تحريكهم في اتجاهات مضادة ومضرة لبلادهم، بحيث يسهل إخراجهم من صفوف المستعدين للدفاع عن بلدهم وقت الحرب الحقيقية.
تسعى البروباجندا لتحقيق أقصى استخدام ممكن للشائعات عبر المنطقة الضبابية التي تمثل مساحة الشائعة، والبيئة المصرية من أخصب البيئات في العالم لنشرها. والسبب في نشر الشائعات هو عدم المعرفة، وغموض موضوعها، وكونها تمس مؤسسة أو شخصية شهيرة في المجتمع. ويضاف لما سبق في واقعنا المصرى الرغبة البراقة في شد الانتباه، بمعنى حب الظهور وحب أن يتحدث الناس حول أن فلان أو فلانة لديهم مصادر عليا موثوق بها، فأحد عيوبنا القاتلة أننا شعب «بيعشق أن يجيب الأخبار طازجة من الكونترول قبل أي حد». ويا حبذا لو كان من يتحدث أهل ثقة، عندها لو حدثهم أعلى مسئول في الدولة فلن يحرك ما اقتنعت به عقولهم. ما سبق يطلق عليه الدعاية السوداء.
أما الدعاية الرمادية، فهي التي لا تعرف خلالها مصدر ما يتوارد لك من أخبار ومعلومات، فيكون الطرف الآخر حريصًا على أن يكون خفيًا ويسخر كل أدواته السرية على مدار الساعة لإشاعة الحالة الضبابية، بما يضع الناس ما بين حالتي التصديق والتكذيب، ما بين الشك المستمر واليقين المتقطع، بما يجعلهم في حيرة دائمة وقلق لا ينقطع تجاه حاضرهم ومستقبلهم. وتكمن أهم أدواتهم مجددًا في الإعلام، ألم تروا المعارك الكلامية بين أطراف حوار تليفزيوني في برامج التوك شو، ألم تروا من يسبون بعضهم بعضًا، ويحتقرون أفكار وانتماءات البعض، وكل طرف يحاول إثبات ما برأسه وفرض رأيه مستخدمًا العنف والغضب. هذه البرامج وما يحاكيها مجرد سيرك معد له مسبقًا، ويستهدف ضرب قيم المجتمع وتحطيم ثوابته واستمرارك في حالة شك دائم، وإفقادك الثقة في نفسك وفي قدرات الدولة. فالجدال بالعنف والشتائم على قنواتهم المعادية الموجهة ضد الوطن مقصود ومخطط له بعناية، فكل طرف من الحوار يستخدم أسلوب «جدال خيال المآتة»، وفيه يعتمد كل طرف على جهل المشاهد بموضوع الجدال، ويستمر في الثرثرة بقوة، وهو يتصنع أنه صاحب قضية، ولديه من المعلومات ما يستطيع أن يقنعك بها. وتجد نفسك بعد نهاية فقرة السيرك تلك في حيرة أيهما أصدق؟
هذه هى الحالة الضبابية الرمادية التى أرادوا وضعك فيها، دون أن تدرى لأن الفخ تم نصبه عليك في صورة «توك شو» أو «مناظرة» أو «تحليل» عبر (الإعلام الدوار الذي ينتجه الإعلام المعادي). مما سبق، يتضح أن الدعاية الرمادية أخطر بكثير، ففى الدعاية السوداء نعلم مصدر المعلومات المزيفة والشائعات ونستطيع أن نتحداها ونفندها وندحضها ونرد عليها، بل وطلب مناظرة مع المصدر أمام الجميع ليعرض كل طرف حجته. أما في الدعاية الرمادية، فأنت لا تعرف المصدر، وهنا تكمن الخطورة؛ لأنك لا ترى العدو لتتحداه، لذلك فأي رد منك على شائعات الدعاية الرمادية سيقابلها الآخرون بآلاف الردود، لأنهم أيضًا ضحايا للحالة الرمادية. ولعل أبرز سمات البروباجندا (السوداء والرمادية) من القنوات الإعلامية المحرضة، ما يلي:
1- التعميم العشوائي HASTY GENERALIZATION: وبالذات في الإعلام، ومرتزقة التوك شو على منصات التواصل، وضيوفهم. حيث تسمع عبارات خرقاء تتعمد تعميم حكم أو فكرة عن شخص أو مؤسسة أو وطن على الشعب كله. يعني جريمة قتل حدثت، فتسمع «القتل انتشر في مصر بصورة مخيفة» أو حادث طريق فتسمع «الطرق المصرية مش أمان»، ويكون الغرض نشر الخوف وهز الثقة. وفى الفترة الحالية، هدفهم هو إفشال الدولة وخارطة طريق الجمهورية الجديدة، فتسمع ونسمع منهم كل ما هو سلبي.
2- استجداء السؤال BEGGING THE QUESTION: للترويج لشخص أو فكرة، من خلال إقناعك بالرغي المستمر عن مزاياه، وكيف أنه عالم العلماء والعبقري وحامي الحريات والقديس، غير أنه بالنظر للواقع لن تجد لهم أي فائدة لخدمة الوطن أو المواطن. على النقيض، ستجد هدم وتشويه واغتيال سمعة أي رمز وطني وقائد محترم. بهدف سرقة وخطف عقلك بعبارة رنانة لهدم سمعة ونزاهة الشخص المستهدف.
3- المنحدر SLIPPERY SLOPE: وهذه أخطر خدعة يستخدمها بهلوانات ومرتزقة الإعلام المعادي، يعنى يحدث أمر سلبي فتبدأ حملات الصراخ والتخويف أن هذه هي بداية النهاية، ويتكرر الأمر بعبارات متشابهة في توقيتات متتالية.
4- الرنجة الحمراء RED HERRING: تشتيت الفكر بافتعال حوارات جانبية واستخدام أحداث لا علاقة لها بالموضوع الذي يحاولون إقناعك به، فتصاب بالصداع بسبب الرغي والكم الهائل من التفاصيل التي يغرقونك فيها، وفى النهاية تسمع الجملة المراد إقناعك بها. ليلة كاملة على الهواء دون هدف؛ لأن هناك هدفًا آخر في عقولهم يرغبون من خلاله أن ينقضوا عليك به ويفترسوا عقلك.
ما دورك كمواطن صالح؟
يكون دورك كمواطن في هذه الحالة أن تلتزم الصمت، وعدم ترديد وتدوير المعلومة المغلوطة مجهولة المصدر، لأنك تساعد على نشرها بين أوساط متابعينك، وتتريث انتظارًا للبيانات والأرقام الرسمية والمعلومات الموثقة الواردة على لسان المسئولين التنفيذيين أيًا كان موقعك الوظيفي والمهني في الدولة. وهنا علينا مجددًا أن نميّز بين الدولة ككيان تاريخي وحضاري ينتمي إليه الجميع، وبين الحكومة وهى الجهاز الإداري الذي يمكن أن ينجح فترقى حياة المواطن أو يتعثر فتعاني حياة المواطن. الدولة تخاطبك في صورة الحاكم -الرئيس في النظام الجمهوري، والرئيس ورئيس الوزراء في النظام المختلط، والملك في النظام الملكي، ورئيس الوزراء في النظام الملكي الدستوري- ويكون الحاكم مصدر المعلومة الموثقة الأكيدة، لأنه مسئول عنها أمام الشعب.
لذلك، هناك طبيعة خاصة لهذا النوع من الخطاب الرسمي:
1- على عكس الدعاية السوداء والرمادية، تكون المعلومات التي تسري على لسان الحاكم منطقية وواقعية، تحمل دائمًا الردود والتفسيرات لما حاولت الدعايتان أن تخرباه في وعيك.
2- طريقة توصيلها خالية من التكرار المريب الذي تمارسه الدعاية السوداء والرمادية لإقناعك بأكاذيبها، فالخطاب الرئاسي يتم عرضه بهدوء وثقة، ويكون محملًا بالأرقام والوثائق والحقائق كاملة، وحتى المرتجل منه يحمل رسائل تهدف لنشر الطمأنينة وبث أواصل الثقة مع جموع الشعب.
3- تأتى معلومات الخطاب الرئاسي في سياق التوعية وتوصيل معلومات تهم الشعب، وتتعلق بحاضره ومستقبله. لذلك، نجد أن الحاكم الذي يحترم عقلية الناس ويعلمهم بالحقائق دون محاولات التأثير على فكرهم باستغلال الدين أو الوصاية التاريخية، فهذا هو الدور المتوقع منه، وهذا هو الحاكم الذي يعبر عن الدولة.
4- تكون مفردات الخطاب الرئاسي موجهة إلى كل أطياف الشعب، لأن مصدرها هو الدولة التي ينتمي إليها كل الشعب، ولا تكون موجهة لعشيرة أو فصيل.
5- لا تلجأ الخطب الرئاسية إلى شخصنة الأمور وتحدي أفراد بعينهم.
ويبقى القول في النهاية، أن المواطن عليه في هذه المرحلة الدقيقة من حروب المعلومات التي تشن علينا، أن يمارس دوره في الفرز والانتقاء. وأن يفرق بين خطاب متكامل يرغب من خلاله رأس الدولة ومؤسساتها أن يضعوا الحقائق كاملة بين يديه، وبين من يريدون أن يجروا المواطن لمزيد من مساحات التقاطع مع الدولة لا النظام، وأن يكرروا معه لعبة أجادوا تنفيذها في الفترة التي سبقت يناير 2011 وما تلاها. نعم نحن فقراء ولكننا نملك ما هو أعظم مما يملكه أغنى الأغنياء، نملك هوية وإيمانًا وعزيمة تخطينا بها أصعب وأشرس المعارك في السابق، وسنتمكن بها من العبور وتخطي ما قدر لنا أن نواجهه في هذه الأيام من حرب إعلامية موجهة تتميز بكل هذا الكم من الكذب والتضليل والافتراء، وعلينا أن ندرك أن عبور مرحلة الفقر ليس مسئولية الحكومة والدولة فقط، ولكنه المسئولية المشتركة التي تجمع بيننا جميعًا على الطريق نحو بناء إنسان يليق بمواجهة تحديات جسام أمام مصر في جمهوريتها الجديدة.
* رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية بمؤسسة الأهرام