عملاق من عمالقة عصره، وصاحب مبدأ وطريق مستقيم لا ينحرف عنه، ضحى بكل ما يمتلك في سبيل علمه، كانت له رسالة واضحة في حياته ورؤية مستقبلية لكل الأجيال.. إنه الدكتور جمال حمدان صاحب موسوعة "شخصية مصر"، والذي يعد واحدًا من أكبر وأشهر علماء الجغرافيا في مصر والعالم العربي، فضلا عن أنه نقل علم الجغرافيا من النظرة التقليدية إلى الفكر الإستراتيجي والتاريخي.
حياته ونشأته
وُلد جمال محمود صالح حمدان بقرية ناي بمحافظة القليوبية، يوم 4 فبراير سنة 1928م لعائلة تصف بالكرم والطيبة وتنحدر من قبيلة بني حمدان العربية التي جاءت إلى مصر إبان الفتح الإسلامي، ولقد تأثر الدكتور جمال حمدان بهذه البيئة في فكره وعاداته وتقاليده.
الرحلة التعليمية
حصل الدكتور جمال حمدان على شهادة الثقافة سنة 1943م، ثم حصل على ليسانس الآداب قسم الجغرافيا من جامعة فؤاد الأول سنة 1948م، ثم حصل على شهادة دكتوراه الفلسفة في الجغرافيا من جامعة ريدنج البريطانية سنة 1953م، وبدأ حياته العملية معيدا بقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظل يتدرج في المناصب العلمية حتى بلغ درجة أستاذ الجغرافيا بالكلية، ولكنه اصطدم بما أدى به إلى الإستقالة من العمل الجامعي سنة 1963م، وهو ما زال في سن الخامسة والثلاثين من عمره.
وخلاصة الأمر أنه رأى من هم أقل منه شأنًا وموهبة وعلمًا ودرجة يسبقونه ويتخطونه في الترقية، ولأنه كان رجلاً معتدًا بنفسه، فقد قدم استقالته من منصبه الجامعي وتفرغ للبحث العلمي والإبداع الفكري، فنذر نفسه وعبقريته للبحث والدراسة والكتابة وظل معتكفا داخل شقته وانقطع عن العالم الخارجي تمامًا، وكانت شقته بمثابة الصومعة، فكان يدخلها ويغلق بابها على نفسه ولا يفتح لأحد أو يرد على أحد، إلا للبواب الذي يأتيه بطلبات المعيشة ولناشر كتبه إذا جاء للحديث معه فقط.
مؤلفاته
من أشهر مؤلفات الدكتور جمال حمدان "أنماط من البيئات"، و"جغرافيا المدن"، و"دراسات في العالم العربي"، و"إستراتيجية الإستعمار والتحرير"، و"6 أكتوبر في الإستراتيجية العالمية"، و"اليهود أنثروبولوجيا"، و"المدينة العربية"، و"قناة السويس"، و"القاهرة"، و"سيناء في الإستراتيجية والسياسة والجغرافيا"، ولكن تظل موسوعة "شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان" هي الأكبر والأعظم والأروع والأشهر والأكثر انتشارًا من مؤلفاته الأخرى، فقد قدم فيها تفسيرًا جديدًا للتاريخ المصري، واعتمد فيه على التحليل الجغرافي.
وقد أثارت تلك الموسوعة التي ظل يعمل عليها 10 سنوات حتى أكملها دويًا هائلاً وقت صدورها، وكان هذا الدوي حول ما جاء بها من حقائق كانت مخفية بين سطور التاريخ، وقد بلغ عدد صفحات هذه الموسوعة حوالى 4000 صفحة، واعتمد في كتابته لها على مصادر يعجز القارئ عن حصرها، فيكفى أن نعلم أنه اعتمد في المجلد الرابع من هذه الموسوعة فقط على 245 مرجعًا باللغة العربية و791 مرجعًا باللغة الإنجليزية، هذا غير عشرات المقالات التي استعان بها وأثبتها في هذه الموسوعة الشهيرة.
صومعة جمال حمدان
عزّل الدكتور جمال حمدان نفسه داخل مسكنه المكون من غرفة واحدة وصالة بالدور الأرضى بالعقار رقم 25 الكائن بشارع أمين الرافعى المتفرع من شارع هارون بالدقى، حيث لم يفتح باب شقته إلا للبواب من أجل أمور المعيشة ولناشر كتبه فقط، وعاش زاهدًا وظل معتكفًا داخل شقته الشبيهة التي كانت أشبه صومعة الراهب، حيث لم يكن الدكتور جمال حمدان يمتلك سيارة يومًا أو تليفزيون أو حتى ثلاجة، فقد نذر نفسه فقط للبحث والدراسة والإبدا؛ ولذلك كتب عنه صديقه الكاتب والصحفي الكبير أحمد بهاء الدين يومًا يصف حالته المادية ومسكنه غير اللائق بعبقري مثله، وكان يهدف من وراء ذلك مساعدته بأن تصرف الدولة له معاشًا استثنائيًا يتعيش منه، ولكن وقعت الواقعة وكانت القطيعة بينهما حين علم الدكتور جمال حمدان بذلك، فقد غضب منه غضبًا شديدًا واستمرت مقاطعته لصديقه الذي كان مقربًا إليه حتى الممات.
وفاته
كانت وفاة الدكتور جمال حمدان يوم 17 أبريل سنة 1993م، نتيجة اشتعال النار في جسده ومسكنه بعد تسرب الغاز من أسطوانة البوتاجاز الموجودة بمطبخه، وقد أشيع وقتها أن الموساد الإسرائيلي هو الذي كان وراء مصرعه، وذلك بسبب ما صرح به قبلها بأنه يعد كتابًا عن اليهود والصهيونية يدحض فيه مزاعمهم بحقهم التاريخي في أرض فلسطين، ويكشف فيه أن اليهود الموجودين حاليًا ليسوا من نسل اليهود الذين سكنوا أرض فلسطين قديمًا.
والجدير بالذكر أن شقيقه اللواء عبدالعظيم حمدان بالإضافة إلى ناشر كتبه قد أعلنا أنه كان يعد لثلاثة كتب منهم جديدة منهم الكتاب المُشار إليه، ولكن بعد وفاته لم يعثروا على أي أثر لأي من أصول هذه الكتب.
جوائز وتكريمات
تم تكريم الدكتور جمال حمدان؛ بسبب نبوغه ومؤلفاته المبهرة غير المسبوقة، حيث تم منحه جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية سنة 1959م، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة 198م، ووسام العلوم من الطبقة الأولى عن موسوعة شخصية مصر سنة 1988م، كما حصل على جائزة مؤسسة التقدم العلمى بالكويت، كما عرض عليه عدة مناصب مثل: تمثيل مصر في إحدى اللجان الهامة بالأمم المتحدة، ورئاسة جامعة الكويت، وإنشاء وتولي إدارة وزارة التعليم العالى بليبيا، وعضوية هيئة اليونسكو، وعضوية مجمع اللغة العربية، لكنه رفض كل ذلك مكتفيًا بالدراسة والبحث والكتابة في معشوقته الأولى الجغرافيا.
وقد اختير الدكتور جمال حمدان شخصية العام لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2020 في دورته الـ51.
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي