شيخوخة الاقتصادات المتقدمة

29-10-2024 | 14:20

لم تستغرق الزيادة السكانية في العالم من 7 إلى 8 مليارات نسمة سوى 12 عامًا فقط، مما أثار مخاوف طويلة الأمد مرتبطة بالنمو السكاني السريع، بما في ذلك نقص الغذاء، والبطالة المتفشية، واستنزاف الموارد الطبيعية، والتدهور البيئي غير المنضبط.

لكن التحدي الديموغرافي الأشد خطورة الذي يواجه العالم حاليًا لم يعد النمو السكاني السريع، بل الشيخوخة السكانية وتداعياتها الاقتصادية خاصة في البلدان المتقدمة وبعض الأسواق الناشئة.

في الواقع أن شبح القنبلة السكانية العالمية قد تم نزع فتيله أو بالأحرى، تلاشى بشكل طبيعي، إذا تباطأ معدل النمو السكاني العالمي بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة، ومن المتوقع أن يستمر في التباطؤ.

وتشير توقعات الأمم المتحدة إلى زيادة عدد البلدان التي تشهد انخفاضًا سنويًا في عدد السكان، من 41 في عام 2022 إلى 88 عامًا 2050 بما في ذلك الصين.

وتنذر هذه التحولات بمجموعة هائلة من التحديات الصحية والاجتماعية والاقتصادية في العقود المقبلة، بينما تواجه الاقتصادات التي تمثل أكثر من 75٪ من الناتج العالمي معضلة الشيخوخة السكانية.
 
الإنتاج والاستهلاك 
كما تقول نظرية دورة الحياة، فإن العمالة الأكثر إنتاجية تكون في منتصف العمر، ويستهلك معظم كبار السن والأطفال أكثر بكثير مما ينتجون.

ويعمل انخفاض معدلات الخصوبة وزيادة طول العمر على إبطاء نمو، أو تقليص حجم القوى العاملة، مما يترك عددًا أقل من العمال مقابل عدد أكبر من كبار السن.

واعتمادًا على أنظمة الضمان الاجتماعي، فإن هذا يخلق ضغوطًا مالية في ظل أسعار فائدة مرتفعة وضغوط تضخمية متزايدة.

تؤثر الزيادة في عدد السكان المسنين في تباطؤ النمو الاقتصادي من خلال نقص المشاركة الفعالة في العمل وتغيير أنماط الاستهلاك والاستثمار.

وعلاوة على ذلك، فإن نسبة أكبر من السكان المسنين تقلل أيضًا من فعالية صدمات السياسة المالية، وتدفع ميزانيات الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي إلى السقف.
  
منطقة اليورو
من اللافت للنظر أن العديد من الاقتصادات المتقدمة تعاني نقص العمالة في القطاعات ذات معدلات التوظيف المرتفعة، وفي ظل الطلب الكلي القوي، أدى هذا إلى تحديات في معدلات النمو إضافة إلى الضغوط التضخمية.

ففي أوروبا دخلت منطقة اليورو، مثل العديد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى، عصرًا من التغيير الديموغرافي الجذري، وفي غياب الاستجابات السياسية المناسبة، فإن شيخوخة السكان في منطقة اليورو تفرض تحديات هائلة على النمو المحتمل والسياسة النقدية والمالية العامة.

وتوقع البنك المركزي الأوروبي انخفاض ​​إجمالي عدد السكان في منطقة اليورو، إذ من المرجح أن يتحول معدل نموهم إلى «سلبي» بداية من عام 2035 فصاعدًا، مع عواقب سلبية على الاقتصاد الكلي والمالية العامة. 

في حين ترتفع نسبة إعالة كبار السن بقوة في السنوات الـ15 المقبلة، مما يفرض عبئًا إضافيًا على أنظمة التقاعد، وتشكل التغيرات الديموغرافية في منطقة اليورو عبئًا على النمو المحتمل، خاصة من خلال نمو المعروض من العمالة والإنتاجية، وقد تكون المدخرات الاحترازية أعلى، ومعدل الفائدة الطبيعي أقل، في حين أن التأثير على اتجاه التضخم والأجور ليس واضحًا.
 
الولايات المتحدة
على الجانب الآخر من الأطلسي، تعيش الولايات المتحدة، أعظم نشاط صناعي منذ أجيال، إلا أن نقصًا في العمالة الماهرة يؤثر عليه.

يواجه قطاع التصنيع الأمريكي نقصًا كبيرًا في اليد العاملة وفجوة في المهارات، بالأخص على صعيد المهندسين والفنيين وعمال التجميع، وهو ما دفع بالحكومة الأمريكية للاستعانة بالعسكريين المتقاعدين.

وفيما تنكب المصانع والكليات التقنية على تدريب الموظفين للعمل في المصانع المختصة بالتقنيات الصديقة للبيئة، التي نشأت على امتداد البلاد، برز المحاربون القدامى الأميركيون كمجموعة قادرة على تخفيف وطأة ندرة أصحاب المهارات.
  
اليابان
في اليابان من المتوقع أن يصل نقص العمالة إلى 17.75 مليون ساعة عمل يوميًا بحلول عام 2035، وهو ما يعادل حوالي 3.84 مليون عامل، ويعكس هذا التوقع زيادة في نقص العمالة بمقدار 1.85 ضعفًا مقارنة بعام 2023. 

في ظل التحديات المتزايدة التي تواجهها اليابان في تأمين القوى العاملة أقرت الحكومة اليابانية تشريعات تستهدف اجتذاب المواهب العالمية لتصبح وجهة مفضلة للعمالة الأجنبية، وزيادة عدد العمال الأجانب من 2.05 مليون إلى 3.77 مليون خلال السنوات العشر المقبلة. 
  
الصين وكوريا
أما الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فقررت رفع سن التقاعد تدريجيًا لأول مرة منذ خمسينيات القرن الماضي، لمواجه ارتفاع معدل الشيخوخة بين السكان مع تراجع ميزانية معاشات التقاعد.

وأفضت سياسة الطفل الواحد التي استمرت لعقود من الزمن إلى أزمة ديموغرافية تتزايد خطورتها مع الوقت في الصين، مع تباطؤ الاقتصاد وتقلص المزايا الحكومية.

كما تشهد كوريا الجنوبية أدنى معدل للمواليد في العالم، حيث انخفض إلى 0.72 طفل لكل امرأة في عام 2023، وإذا استمر هذا المعدل، فإن عدد الشباب البالغين اليوم سوف يفوق عدد أحفادهم بنسبة تسعة إلى واحد. 

ويشير مسح لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تقدم المشورة للدول المتقدمة، إلى أن هذا الوضع من شأنه أن يحد من وفرة العمالة ويزيد الضغط على المالية العامة.
  
نقص الإنتاجية
مع تقدم القرن الحادي والعشرين، سوف تشهد أغلب البلدان انخفاضًا في عدد الأطفال المولودين لكل امرأة، وبحلول نهاية القرن سوف يتحول متوسط ​​أعمار العالم كله بحيث يفوق عدد المسنين عدد الشباب.

وتفرض الشيخوخة السكانية في الاقتصادات المتقدمة والناشئة عبئًا على السياسة المالية، من خلال الضغوط التصاعدية على الإنفاق على المعاشات التقاعدية والبرامج الصحية والاجتماعية، والتأثير سلبًا على القواعد الضريبية وبنية الإيرادات العامة ونقص الإنتاجية. 

وبالتالي سوف يتطلب التصدي لكل هذه التحديات تغييرات ذات مغزى في سلوكيات نمط الحياة، والاستثمارات العامة والخاصة، والإصلاحات المؤسسية والسياسية، والابتكار التكنولوجي وتبنيه.
 
والعواقب المحتملة المترتبة على التقاعس عن العمل مأساوية منها تناقص القوى العاملة التي تكافح لدعم أعداد متزايدة من المتقاعدين، وانفجار مصاحب للأمراض المرتبطة بالعمر وتكاليف الرعاية الصحية المرتبطة بها، وتدهور نوعية الحياة بين كبار السن بسبب نقص الموارد البشرية والمالية والمؤسسية.

إن الإصلاحات المؤسسية والسياسية قادرة على تعزيز القدرة على الوصول إلى إمدادات وخدمات تنظيم الأسرة الجيدة، والسماح بمزيد من الاختيار بشأن سن التقاعد، وتحفيز الادخار الفردي، وتعزيز القطاعات الاقتصادية التي توفر فرص العمل للعمال الأكبر سنًا، وتطوير أنظمة الرعاية طويلة الأجل، وتعزيز الوقاية من الأمراض والكشف المبكر عنها.

كلمات البحث
الأكثر قراءة