أو قل: بين قاعتين، قاعة في الزمالك بالقاهرة، وقاعة في قازان في روسيا!
فبالمصادفة تزامن انعقاد ندوة أقيمت في مكتبة القاهرة الكبرى عن أبي الاقصاد المصري "طلعت حرب"، مع انعقاد قمة البريكس في مدينة قازان الروسية بمشاركة الرئيس عبدالفتاح السيسي بعد انضمام مصر لدول التكتل الاقتصادي الواعد الذي يفاجئنا كل عام بتطورات مهمة سيكون لها أثر رائع على اقتصادنا، واقتصاد الدول المشاركة في تلك القمة المهمة.
وبينما شاركتُ في ندوة طلعت حرب، كان ذهني هناك في روسيا متعجبًا من تلك المصادفة اللافتة؛ يحلو له أن يربط بين الحدثين ربطًا رمزيًا له دلالة. فما العلاقة بين هذا الحدث المحلي المتواضع البسيط، وحدث عالمي كقمة البريكس بالنسبة لي أو بالنسبة لقارئ هذا المقال؟ دعونا نرى..
قمة هناك.. وندوة هنا
مجموعة البريكس الاقتصادية التي تأسست عام 2009 والتي يضم اسمها اختصارًا للدول المشاركة في تأسيسها، وكان اسمها الأول "بريك" أي: البرازيل، وروسيا، والهند، والصين. ثم انضمت جنوب إفريقيا عام 2010 فأضيف حرف الإس للكلمة المختصرة لتصبح: "بريكس". وهناك اتجاه لتغيير اسمها إلى: "بريكس بلاس" بعد انضمام خمسة دول للمجموعة في قمتها السابقة في مقدمتها مصر، بالإضافة للسعودية وإثيوبيا وإيران والإمارات.
ثمة دول أخرى تقدمت بطلب العضوية، ومن المرجح انضمام بعضها لمجموعة البريكس كالأرجنتين والجزائر وتركيا وأفغانستان وبيلاروسيا ونيجيريا والبحرين، بالإضافة لعشرة دول أخرى أو أكثر تميل للانضمام لها.
معنى هذا أن الأداء الاقتصادي لتلك المجموعة الكبرى صار جاذبًا للعديد من الدول، وبات حجم التعاملات البينية بين تلك البلدان المشاركة مرشحًا للنمو باستمرار، وقد يتفوق على اقتصاد مجموعة الدول السبع يومًا ما. خاصة وأن قمة هذا العام قررت مناقشة أمر محوري يتعلق بالعملات العالمية الخاصة بالتجارة البينية، فيما قد يهز عرش الدولار كعملة عالمية تتربع على عرش المعاملات المالية عبر الحدود.
قمة هذا العام مهمة لمصر بشكل خاص.. وثمة فرص اقتصادية واعدة يمثلها هذا التكتل المالي والاقتصادي المهم؛ حيث تُعدّ عضوية مصر بمجموعة بريكس فرصة سانحة أمامها لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول المجموعة، وزيادة حجم التبادل التجاري مع هذه الأسواق الضخمة، وكذلك جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر للعديد من القطاعات المهمة، فضلًا عن زيادة حجم الصادرات المصرية لاسيما للأسواق الناشئة بالتكتل؛ مثل البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، إلى جانب تكثيف التعاون في مجالات الطاقة والأمن الغذائي ونقل التكنولوجيا واللوجستيات.
هذا عن القمة ومدى استفادة مصر منها، وأما عن الندوة التي أقيمت في مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك، فإنها بمثابة احتفالية دارت حول شخصية طلعت حرب، بمناسبة صدور كتاب: (طلعت حرب، رجل بحجم دولة) عن هيئة الكتاب، وهو العدد السادس من سلسلة "عقول" التي أتشرف برئاسة تحريرها، ومن تأليف الكاتب الكبير سامي الزقم، وتتمثل أهمية الندوة في الشخصية التي دار حولها النقاش، وهي شخصية طلعت باشا حرب رائد الاقتصاد الوطني..
ومن باب: "الشيء بالشيء يُذكر" راق لي أن أربط بين قمة البريكس والتجربة الفريدة التي قام بها طلعت حرب كواحد من أبناء الطبقة المتوسطة والذي استطاع أن يتجاوز كل معوقات قيام اقتصاد وطني في ظل الاستعمار الإنجليزي، حتى استطاع إنشاء بنك مصر ثم تأسيس عدد من الشركات العملاقة بلغ عددها نحو 14 شركة، هي الآن من كبريات الشركات القومية، وقد فعل هذا مدفوعًا برغبة وطنية صادقة لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، وقد نجح مسعاه واستطاع تحقيق مبتغاه، ورحل عن عالمنا ليترك لنا تجربته الرائدة شاهدًا على قدرة المصريين على الإنجاز، وأن استعادة هذه التجربة الآن هي استدعاء لطاقات وعقول المفكرين والاقتصاديين ورجال الأعمال لاستخدام الأدوات الاقتصادية المتاحة في أيدينا من أجل النهوض باقتصاد مصر من جديد، ومصر دائمًا قادرة بأبنائها وإمكاناتها أن تجتاز أي عقبة لتصل إلى ما تريد.
عملة موحدة.. وبنك مركزي
وكما كانت إقامة البنك هي أول ما فكّر فيه طلعت حرب كنواة لإنشاء كل المشروعات التي ترتبت على تأسيس بنك مصر، هكذا كان البنك هو أول منشأة أسستها مجموعة البريكس في شنغهاي، لتكون نواة لكل ممارساتها الاقتصادية التالية..
أثناء قمة البريكس عام 2014 تم الاتفاق على إنشاء بنك التنمية الجديد في شنغهاي، ومنذ ذلك الحين بدأ التفكير في تعديل نظم الدفع بحثًا عن بديل لنظام سويفت، وكان التفكير الذي اهتدوا إليه هو الاتفاق على وجود عملة موحدة للتعامل فيما بين دول المجموعة تصبح فيما بعد بديلًا عن التعامل بالدولار، وقد أخذت المشاورات في هذا الشأن تتنامَي والمقترحات تتبلور حتى وصلت إلى حالة من النضج بعد عشرة أعوام من إنشاء بنك البريكس، وها هو اليوم الرئيس الروسي بوتين يعلن مفاجأة في قمة عام 2024 تتمثل في قرب طرح العملة الموحدة التي تم اقتراح شكلها الذي ضم في تصميمه أعلام الدول المشاركة في التكتل.
ليس هذا فحسب، بل إن إصدار العملة الموحدة سوف يستلزم عدة خطوات مرتبطة بهذا الإصدار؛ منها إنشاء منصة مالية للمجموعة تهدف لمعالجة المشكلات الاقتصادية الخاصة بدول المجموعة.. ثم بنك مركزي يستوعب التعاملات التجارية.
تلك المنصة، وذلك البنك سوف يكون من مهامهما دعم اقتصاد كل دولة من الدول العشر بالمجموعة، ومنها مصر. من أجل تأمين تعاملاتها المالية بعيدًا عن التأثير المدمر لنقص الدولار في بنوك تلك الدول، ولعمليات رفع الفائدة في الفيدرالي الأمريكي.
لقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن المجموعة بصدد الكشف عن هذه العملة الموحدة وإن كان تطبيقها سيستلزم وقتًا تقتضيه الضرورة من أجل إتمام المفاوضات بشأن توحيد الإطار القانوني للتعاملات المالية لاستخدام هذه العملة. تلك المفاوضات التي سوف تشمل الدول العشرة الجديدة التي انضمت هذا العام لمجموعة البريكس ليصبح قوامها الآن عشرين دولة، ما يعد بمستقبل اقتصادي عظيم لهذه الدول معًا.
وعود خارجية، ودعوات داخلية إن تزامن قمة البريكس وبين ندوة طلعت حرب يشير بشكل رمزي إلى ضرورة وجود تلك الحالة من التوازن بين الاعتماد على الخارج من جهة، واستغلال ما نملكه من إمكانات بشرية وموارد طبيعية للنهوض بالاقتصاد.
قمة البريكس تعدنا بالكثير؛ فهي ستوفر فرصًا للاستثمار الأجنبي في مصر، وستعزز الروابط بين البريكس وبين إفريقيا عبر مصر كسوق مشتركة، كما ستسمح بتبادل الخبرات بين مصر ومختلف دول المجموعة، ثم إنها ستوفر تمويلًا ميسرًا من خلال بنك التنمية الجديد بشنغهاي، أكثر من هذا أن دخول التداول بالعملة الموحدة سوف يحرر التعاملات المالية من هيمنة الدولار مما يخفف ضغوط النقد الأجنبي في البنوك المصرية، كما أنها فرصة للمنتجين والمصنعين المصريين لاقتحام أسواق جديدة. كل هذا وغيره قد يتحقق بعد هذه القمة المهمة، لكنها تظل اتفاقيات ووعود على الورق تنتظر التفعيل والتحقيق على الأرض.
الأمل كل الأمل في أبناء مصر من الاقتصاديين ورجال الأعمال أن يتخذوا من منهج طلعت حرب الاقتصادي نبراسًا ونموذجًا يُحتذى، إننا لن نعدم من بين رجالات مصر وأبنائها المخلصين النابهين واحدًا أو أكثر يعيد تجربة طلعت حرب الملهمة، كما ننتظر تجربة تطوير التعليم لدينا أن تفرز عددًا من الشباب الواعدين الذين تتحقق على أيديهم نهضة الاقتصاد المصري، إنه حلم أراه ممكنًا ومتاحًا، وأرى أن مصر حافلة بالعقول والسواعد القادرة على تحويل الحلم إلى واقع قريب المنال، وعلينا دائمًا أن نتحلى بالتفاؤل ونتشبث بالأمل.
Abdelsalamfarouk@Gmail