في عام 1695م وفي قرية عرابة، إحدى قرى الجليل شمال فلسطين، ولد ظاهر العُمر، ملك الجليل وسليل الأدارسة الذي أربك حسابات العثمانيين خلال القرن الثامن عشر، وفرض نفسه ملكًا على فلسطين.
موضوعات مقترحة
نشأ ظاهر العمر في صفورية، وهو الأخ الأصغر بين الأبناء الذين ولدوا للشيخ عمر الزيداني، أما إخوته فهم سعد وصالح ويوسف، نشأ منتمياً للعائلة الزيدانية التي يعود نسبها إلى الأدارسة "ملوك المغاربة"، الذين يعودون بنسبهم إلى الإمام علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه"، وقد أشرف على تعليمه العالم عبد القادر الحفناوي.
أما والده عمر الزيداني وجده صالح الزيداني من الملتزمين الذين يقومون بتحصيل الضرائب للدولة العثمانية، فكان والده مسؤولاً عن تحصيل الضرائب في عرابة والشاغور، أما عمه علي فكان مُحصلاً للضرائب في الدامون، وعمه حمزة يُحصل الضرائب في الناصرة.
شبابه وزعامته
في عام 1699م أصبح والده نائب حاكم صفد منصور الشهابي، وبعد وفاة منصور الشهابي عام 1701م أصبح والده هو حاكمها، ولكن لم يطل حكمه حيث توفي في عام 1706م، فيما تولى سعد شقيق ظاهر زعامة الأسرة الزيدانية، وفي نفس الوقت تم منح ظاهر العمر مسؤولية الإلتزامات التي تتولاها الأسرة.
كان ظهوره الأول حينما أصدر الوالي العثماني جركس عثمان باشا قرارًا برفع الضرائب، وهو ما رفضه السكان، وكذلك الأسرة الزيدانية التي توقفت عن تحصيل الضرائب، فقام الوالي بمهاجمة شمال فلسطين بنفسه في عامي 1713م و 1718م، وتولى ظاهر العمر قيادة السكان الذين قاموا بالتصدي لهجوم، واستمرت الأزمة إلى أن تم إلغاء رفع الضرائب برحيل الوالي جركس عثمان، وهذا جعل لظاهر العمر رئاسة وزعامة وشعبية واسعة بين السكان، كما انتهت قيادة أخيه سعد للعائلة الزيدانية وأصبح ظاهر العمر كبيرها.
لاحظ ظاهر العمر أن الدولة العثمانية ترسل لفلسطين حُكامًا أتراك وألبان وبوشناق وشركس لا يشعرون بما يعانيه الشعب، ولا يقوم العثمانيين بتعيين حكام فلسطينيين لحكمهم، وفي نفس الوقت كل ما يسعى له الحكام الأجانب هو تحصيل الضرائب من السكان، ولا يستفيد السكان شيء من هذه الأموال، بل تذهب كل الفائدة للعاصمة العثمانية، فبدأ ظاهر العمر بالتخطيط لتغيير الوضع القائم.
تولي الحكم
استطاع ظاهر العمر خلال سنوات أن يبني لنفسه قاعدة شعبية متينة، حيث قام بتخطيط وتنظيم الزراعة في الجليل، وكذلك قام بإيجاد أسواق لبيع المنتجات لها، وجمع ثروة من ورائها، وقام بتقوية صلاته مع دمشق، حيث بنى علاقات متينة مع كبارها، وتزوج من ابنة كبير أشرافها وأحد أغنى أغنيائها الشريف محمد الحسيني، وكما أنه قام بكسب قبيلة بنو صقر لصفه وجعلهم جيشه ورجاله، وبهذا رآى الفرصة مناسبة لأن يصبح حاكم فعلي ورسمي وليس ملتزم وزعيم شعبي فقط.
ووجد أن البداية المناسبة هي طبريا، حيث كان حاكمها وملتزمها شديدي السوء ويعاملون السكان بقسوة، فقام في عام 1727م بقيادة جيشه من قبيلة بنو صقر ونفذ هجومًا على المدينة واستطاع السيطرة عليها وطرد حاكمها والملتزم والحامية العثمانية منها، وأعلن نفسه حاكمًا عليها وعلى ما حولها، وأرسل رسالة إلى الوالي عبد الله باشا الكوبريللي، يذكر فيها تفاصيل من سوء سيرة الحاكم السابق، فقام الوالي عبد الله باشا الكوبريللي بالإعتراف بالظاهر عمر الزيداني حاكمًا على طبريا، وبهذا أصبح ظاهر العمر لأول مرة حاكمَا رسميَا وفعليَا وله دولته الخاصة بعد أن كان ملتزمَا وزعيمًا شعبيًا.
توسيع دولته
إتخذ ظاهر العمر من طبريا عاصمة له، وقام بجلب أقاربه الزيدانيين وعينهم في المناصب، وقام بتعيين إبن عمه محمد بن علي الزيداني قائدًا لجيشه، وأقام دولته على أساس توفير الأمن ببناء القلاع وبمنع قبائل البدو من الإغارة على مناطقه، وكذلك تحقيق الرفاهية بتقليل الضرائب المدفوعة للدولة العثمانية ثم قطعها عام 1768م وصرفها على السكان وتنظيم الزراعة والنهضة بزراعة القطن وتوفير أسواق لها في بلاد الشام وأوروبا.
وقام ظاهر العمر بمد نفوذه إلى سهل مرج إبن عامر جنوبًا، وتسببت نزاعاته مع عائلة جرار في نابلس في إبتعاد قبيلة بنو صقر عنه، فقام بعمل جيش من أسرته ومن سكان الجليل ومن المغاربة، وأصبح قائد المغاربة أحمد آغا الدينكزلي مُقربا منه.
وفي عام 1735م، انتصر العمر على قبيلة بنو صقر، وعائلة جرار وقتل زعيمهم إبراهيم جرار، وسيطر على مدينة الناصرة، وسيطر على مناطق من جبل نابلس، وفي عام 1738م بدأ يسعى للوصول إلى البحر المتوسط، فسيطر على منطقة جدين، وطرد حاكمها أحمد الحسين بعد أن اشتكى السكان من قمعه، وفي عام 1739م صمدت بوجهه بعينة فتزوج ظاهر العمر من ابنة مختارها (مختار القرية هو كبيرها) لتدخل بعينة في دولته، وفي عام 1740م استطاع أخيه سعد أن يسيطر على دير حنا، واستطاع ابن عمه محمد بن علي أن يسيطر على شفا عمرو، وتوج إنجازاته بالسيطرة على مدينة صفد.
محاولة الدولة العثمانية القضاء عليه
نظر السلطان العثماني محمود الأول بعين الريبة لتوسع ظاهر العمر فأرسل في عام 1742م إلى والي دمشق سليمان باشا العظم أمرًا بالقضاء على دولة ظاهر العمر، فقام سليمان باشا العظم بمحاصرة طبريا عاصمة ظاهر العمر لمدة 83 يومًا، ولكن الحصار انتهى بسبب حلول ميعاد مغادرة قافلة الحج التي يقودها والي دمشق، ولكن سليمان باشا العظم أعاد المحاولة في عام 1743م وهاجم دير حنا، ولكنه توفي فجأة في لوبيا، فاستغل ظاهر العمر الفرصة وهاجم قواته ومعسكره.
سيطرته على عكا
في عام 1743م حاول إبن عمه محمد بن علي الزيداني السيطرة على عكا والانفصال عن دولة ظاهر العمر، فقام ظاهر باعتقال ابن عمه وإعدامه، وحاول أن يأخذ التزام عكا، ولكن والي دمشق إبراهيم باشا العظم منعه، فقام ظاهر العمر بالسيطرة على عكا بالقوة في عام 1746م ونقل العاصمة لها، وقام ببناء سورها وتحصيناتها في عام 1750م، وفي عام 1757م أصبح يملك ساحل واسع في البحر المتوسط حيث ضم حيفا وطيرة الكرمل وطنطورة لدولته.
أزمة قافلة الحج
في عام 1757م تعرضت قافلة الحج العائدة من مكة إلى دمشق لهجوم من قبائل بدوية والذين قتلوا آلاف الحجاج، وفشل قائد القافلة حسين باشا بن مكي في حماية القافلة، وبرر الوالي فشله بإرسال رسالة إلى السلطان العثماني عثمان الثالث يقول فيها بأن الهجوم لم يكن من قبائل بدوية بل من جيش أرسله ظاهر العمر، وأنكر ظاهر العمر أي علاقة له بالهجوم، وتم عزل والي دمشق حسين باشا بن مكي وتم تعيين أسعد باشا العظم مكانه، وكانت العلاقة بين ظاهر العمر وأسعد باشا العظم ممتازة، وخاصة بعد أن قام ظاهر العمر بتعويض خسائر دمشق من الهجوم على القافلة.
الفتنة الأهلية داخل الأسرة
في عام 1761م قام والي دمشق عثمان باشا الكردجي بالتواصل مع سعد شقيق ظاهر العمر، واتفقا على أن يتم تعيين سعد مكان أخيه، فكلف ظاهر العمر ابنه عثمان بقتل سعد، وبعد قتله لسعد طلب عثمان أن يتم تعيينه حاكمًا على شفا عمرو ولكن ظاهر العمر رفض، فأعلن عثمان وشقيقيه أحمد وسعد العصيان وحاولوا السيطرة على شفا عمرو بالقوة ولكنهم فشلوا، ثم انضم شلبي ابن ظاهر العمر الأكبر للإخوة الثلاث، وحصلت مواجهة بينهم وبين أبيهم ولكنهم هزموا، وقام ظاهر العمر بسجن ابنه عثمان لمدة 6 أشهر ثم نفاه.
وبعد سنوات حاول عثمان وأخوته علي وسعيد التمرد بدعم من الدروز ولكنهم فشلوا، وكان هدف أبناء ظاهر العمر أن يصبحوا حُكامًا على مناطق، وهذا يخالف رأي ظاهر العمر الذي كان يخشى من تفكك دولته، ولكن ظاهر العمر في عام 1767م قام بجمع أبنائه وأصلح العلاقة معهم وقام بتنظيم الدولة.
وبعد فشل ولاة دمشق في الدولة العثمانية في زرع الفتنة في داخل أسرة ظاهر العمر، اعترفت الدولة العثمانية عام 1768م بما يسيطر عليه ومنحت ظاهر العمر لقب "أمير الأمراء، وشيخ عكا، وأمير الناصرة وطبريا وصفد، وشيخ كامل بلاد الجليل".
تحالفه مع علي بيك الكبير
كان ظاهر العمر عاقد تحالفًا مع حاكم مصر المستقل علي بيك الكبير ولهما مصلحة مشتركة في السيطرة على دمشق، وفي عام 1771م أرسل على بيك الكبير جيشًا عدده 20000 مقاتل بقيادة إسماعيل بيك، فعبر ظاهر العمر واسماعيل بيك نهر الأردن واتجهوا شمالاً نحو دمشق ولكن اسماعيل بيك توقف فجاة وعاد إلى يافا، فغضب ظاهر العمر من تراجع إسماعيل بك، وبرر إسماعيل بيك تراجعه بأن وإلي دمشق عثمان باشا ذاهب إلى الحج ومهاجمة دمشق إهانة دينية.
ومع ذلك تقدم ظاهر العمر ومعه أبنائه علي وأحمد وسيطروا على القنيطرة وحوران، وردًا على غضب ظاهر العمر أرسل حاكم مصر علي بيك الكبير جيشًا آخر عدده 35000 مقاتل بقيادة محمد أبو الذهب، وحقق ظاهر العمر ومحمد أبو الذهب انتصارات متلاحقة وسيطر ظاهر العمر على صيدا وسيطر محمد أبو الذهب على دمشق، ولكن محمد أبو الذهب انسحب فجأة بعد فتوى دينية بأنه عاصي ويقاتل خليفة المسلمين، فانقطع كل الدعم من مصر وهرب علي بك الكبير من مصر بعد إنقلاب محمد أبو الذهب، والتجأ عند حليفه ظاهر العمر في عكا، واضطر ظاهر العمر أن ينسحب من صيدا، وتقدم جنوبا وسيطر على يافا والرملة وغزة، وبعد عامين عاد علي بيك الكبير ومعه شلبي بن ظاهر العمر إلى مصر وقتلا فيها.
انتصاره على الدولة العثمانية
بعد أن سيطر ظاهر العمر على يافا في عام 1771م قام والي دمشق عثمان باشا ووالي صيدا درويش باشا وأمير جبل لبنان يوسف الشهابي بالهجوم على فلسطين للقضاء على ظاهر العمر، فذهب لهم ظاهر العمر بجيشه ومعه ولديه شلبي وعلي، ووقعت معركة بحيرة الحولة، وانتصر فيها ظاهر العمر وكاد والي دمشق عثمان باشا يموت غرقا في البحيرة، وعاد ظاهر العمر إلى عكا منتصرًا وقامت احتفالات واسعة، وتم توزيع مسدسات على القرى كتكريم لهم على مشاركتهم بالمعركة.
سيطرته على لبنان وكامل فلسطين
بعد انتصاره في معركة بحيرة الحولة، أرسل ظاهر العمر رسالة إنذار إلى والي صيدا درويش باشا يأمره بمغادرة صيدا، ولكن الوالي لم ينفذ أمر ظاهر العمر، فتقدم ظاهر العمر وأتى أمير جبل لبنان يوسف الشهابي لحماية صيدا ووقعت معركة إنتصر بها ظاهر العمر، وهرب والي صيدا درويش وقائد الدروز علي جنبلاط وهرب يوسف الشهابي إلى دير القمر، ليضم ظاهر العمر صيدا لدولته في عام 1771م ويمد حدود دولته إلى بيروت شمالا.
وأمام انتصارات ظاهر العمر المتلاحقة، وبعد تولي عثمان باشا المصري لولاية دمشق، والذي كان صديقاً قديماً للظاهر العمر، اعترفت الدولة العثمانية في عام 1774م بما سيطر عليه ظاهر العمر، واعترفت به رسميًا بصفته "أمير الأمراء، وحاكم صيدا ونابلس والقدس وغزة والرملة ويافا وجبل عجلون، وشيخ عكا وكامل بلاد الجليل وأمير الناصرة وطبريا وصفد".
مقتل ظاهر العمر
في عام 1775م تم عزل والي دمشق عثمان باشا المصري، وتعيين محمد باشا العظم، وتنصلت الدولة العثمانية من كل الضمانات التي قدمها والي دمشق السابق، وأرسل والي دمشق محمد باشا العظم رسالة إلى ظاهر العمر يطلب منه الإستسلام ويمنحه عفو من السلطان.
وفي نفس الوقت تواصل والي دمشق مع ولدي ظاهر العمر علي وسعيد ووعدهم بالمناصب، فقاما بالتمرد ولكن ظاهر العمر إنتصر على أبنائه المتمردين.
وقام والي مصر محمد أبو الذهب بالزحف على فلسطين وسيطر على يافا وقام بمذبحة فيها، فانشرت أخبار المجزرة في كل فلسطين، ووصل والي مصر محمد أبو الذهب إلى عكا وانسحب ظاهر العمر إلى جبل عامل، وأعلن علي بن ظاهر نفسه حاكما على عكا، ولكن والي مصر محمد أبو الذهب توفي فجأة، فانتهت الحملة المصرية وعاد ظاهر العمر إلى عكا وقام بتنظيم أمورها.
ثم قامت الدولة العثمانية بإرسال قائد البحرية حسن باشا جزايرلي للقضاء على ظاهر العمر، وحصلت مراسلات بينهما، وتم الإتفاق على تجنب الحرب وهدر الدماء، وأن يدفع ظاهر العمر كل الضرائب التي لم يدفعها منذ عام 1768م وقيمتها 500000 قرش، بالإضافة ل50000 قرش تدفع شخصيا لحسن باشا الجزايرلي، ولكن لم يتم تنفيذ الاتفاق بسبب خلافات بين المقربين من ظاهر العمر، حيث اقتنع بأن الخزينة لا تحتوي على هذا المبلغ وبأنه يستطيع الانتصار على حسن باشا كما انتصر على من أتى قبله.
وحصلت المواجهة، وبدأ حسن باشا بقصف عكا، وأمر قائد المغاربة أحمد آغا دينكزلي بتعمد عدم قصف السفن العثمانية، فأصبحت السفن العثمانية تتقدم نحو عكا، والمدفعية في عكا تتعمد عدم إصابتها، فأدرك ظاهر العمر الخيانة، وقرر الخروج من عكا والذهاب نحو جبل عامل أو صيدا، ولكنه وأثناء خروجه من المدينة أُصيب بطلق ناري عثماني في رقبته، وقام أحد جنوده المغاربة بقطع رأسه وتسليمه للقوات العثمانية، لتكون نهايته في عام 1775م
فلسطين بعد ظاهر العمر
بعد مقتل ظاهر العمر، أعادت الدولة العثمانية السيطرة على فلسطين، واعتقلت أبناء ظاهر العمر وطبيبه وصادرت أملاكهم، وقامت بسجنهم، ولكن الطبيب الماهر استطاع علاج زوجة السلطان، وتوسط للإفراج عن أبناء ظاهر العمر، وأما أحمد آغا الدينكزلي فتمت مكافئته بتعيينه حاكمًا على غزة، ولكنه مات بعد أقل من شهر.
وفي عام 1776م قاد علي بن ظاهر العمر التمرد لإعادة دولة أبيه ومعه إخوته عثمان وأحمد وسعيد، ولكنهم هُزموا وقتل علي قرب طبريا، واختفى باقي الأبناء، باستثناء عباس بن ظاهر العمر، والذي عينته الدولة العثمانية شيخاً على صفد، واستمرت الأسرة الزيدانية بقيادة عباس في حكم صفد حتى عام 1799م، حيث انتهى حكم الأسرة بسيطرة الحملة الفرنسية على المدينة.
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي