استفحل خطر الممالك الإسبانية النصرانية في الأندلس خلال عهد دول "ملوك الطوائف"، وهي دويلات صغيرة قامت على أنقاض الخلافة الأموية في الأندلس، ووصل عددها لثلاث وعشرين دويلة تناحرت فيما بينها للهيمنة وتوسيع رقعتها.
موضوعات مقترحة
ولما كان الوضع في الأندلس على هذا السوء، قام الفونسو السادس ملك قشتالة (أكبر ممالك إسبانية) بالإغارة على ممالك الطوائف، حتى أصبح ملوكها يبعثون بالجزية إليه كل عام، ولما استمر الوضع على هذا النحو ضج ملوك الطوائف من تجبره.
في ذلك الوقت كانت هناك قوة صاعدة هيمنت على أكثر بلاد المغرب وهي دولة المرابطين، وأميرها يوسف بن تاشفين، والتي كانت بمثابة طوق نجاة للأندلسيين؛ حيث أرسلت وفود شعبية من العلماء الأندلسيين رسائل تحثُّ الأمير يوسف بن تاشفين على إنقاذ الأندلس، وعرض يوسف بن تاشفين القضية على أهل العلم عنده، فأجمعوا على ضرورة نصرتهم، واكتملت الأمر بأن أرسل ملك إشبيلية المعتمد بن عباد، وهو أكبر ملوك الطوائف أرضا وأكثرهم نفوذا الدعوة إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين للجهاد ضد الإسبان، الذين بدأوا يسقطون مدن المسلمين في الأندلس مدينة تلو أخرى.
عبر يوسف بن تاشفين مضيق جبل طارق إلى الأندلس، بعد أن تنازل له المعتمد عن ثغر الجزيرة الخضراء؛ كي تكون قاعدة عسكرية له، ولقد انزعج ألفونسو من مجيء المرابطين انزعاجًا كبيرًا؛ حيث شعر بعودة الروح المعنوية إلى أهل الأندلس بعد أن كان يتلاعب بمصيرهم، وينتظر الفرصة لاستئصالهم من الأندلس.
وبعد عبوره إلى الأندلس أرسل يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو كتابًا يعرض عليه الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب، ومما جاء في كتاب الأمير: (بلغنا يا ألفونس أنَّك نحوت الاجتماع بنا, وتمنيَّت أن تكون لك فُلْكٌ تعبر البحر عليها إلينا، فقد جزناه إليك)، ولما قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وقال (أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل ملته منذ ثمانين سنة؟).
وانتهت الرسائل التهديدية بقيام موقعة من أشهر مواقع المسلمين وهي الزلاقة؛ حيث التقى الجيشان بمكان عرف باسم الزلاقة؛ لأن الخيول كانت تنزلق من كثرة دماء الصليبيين التي سالت على أرض المعركة، بدأت أحداث الموقعة بمحاولة ماكرة من (ألفونسو السادس)؛ حيث أرسل يحدد يوم المعركة، فأرسل أن غدًا الجمعة وهو عيد المسلمين، وأن السبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، وأما الأحد فهو عيدنا، فلنقاتل يوم الإثنين.
تسلم يوسف بن تاشفين الرسالة، وبوعي تام بفنون الحروب لم يُخبر جيشه بهذه الرسالة؛ إذ إنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، وبعد صلاة فجر الجمعة 12 رجب 479هـ= 23 أكتوبر 1086م، هجم ألفونسو بجيشه، ولم تكن مفاجأة ليوسف بن تاشفين أن ينقض (ألفونسو السادس) عهده.
إنما المفاجأة أصابت (ألفونسو) الذي وجد الجيش الإسلامي على أتمِّ تعبئة وأفضل استعداد؛ حيث كان يوسف بن تاشفين قد قسم الجيش ثلاث فرق: الفرقة الأولى وهي المقدمة بقيادة المعتمد بن عباد ومن معه من جيوش ملوك الطوائف الأندلسية، وتضم خمسة عشر ألف مقاتل.
والفرقة الثانية: فرقة من جيش المرابطين، وعلى رأسهم البطل المرابطي الكبير داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي.
أما الفرقة الثالثة فكانت تضم جيش المرابطين الرئيسي بقيادة يوسف بن تاشفين وكانت تختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش، فيُظَنُّ أن كل جيش المسلمين هو الفرقتان الأوليان: جيش الأندلسيين وجيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة.
وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعا القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخَّل بجيشه ليَعدل الكِفَّة لصالح صفِّ المسلمين.
وقد كانت خطة يوسف بن تاشفين كخطة خالد بن الوليد في فتوح فارس والنعمان بن مقرن قي موقعة نهاوند، فقد كان -رحمه الله- رجلاً عالما بالتاريخ ووقائعه.
وبالفعل أصاب الإسبان في ذلك اليوم مقتلة عظيمة، وولى ألفونسو مطعونًا في إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى ساقيه، وكان لمعركة الزلاقة تأثيرٌ كبيرٌ في تاريخ الأندلس الإسلامي؛ إذ إنها أوقفت زحف الصليبيين في أراضي ملوك الطوائف الإسلامية، وقد أَخَّرت سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس لمدَّة تزيد عن قرنين ونصف.
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي