فرص وتهديدات العصر الرقمي تتنامى بوتيرة متسارعة مع وجود أكثر من 3.2 تريليون دولار يستثمرها المجتمع الدولي في تطوير ونشر التقنيات التكنولوجية الناشئة، في قفزة واضحة من حاجز الـ 4 مليارات دولار فقط في عام 2018.
موضوعات مقترحة
هذه القفزة كما كشفها المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره حول حلول الأمن السيبراني الصادر في أكتوبر الجاري، مدفوعة بالفرص غير المسبوقة التي تجلبها التقنيات الناشئة للنمو الاقتصادي والكفاءة التشغيلية بفضل استخدامات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، وإنترنت الأشياء، والبلوك تشين والتكنولوجيا الحيوية. والتي ساهمت في إحداث ثورة في الصناعات من خلال تعزيز عملية اتخاذ القرار وأتمتة العمليات المعقدة، تحليل البيانات، وحل المشاكل التي كانت تعتبر في السابق غير قابلة للحل، وفتح آفاق جديدة في التشفير واكتشاف الأدوية وعلوم المواد.
في الوقت ذاته حذر التقرير من الطبيعة المزدوجة للذكاء الاصطناعي كأداة للأمن السيبراني، وكونه -في الوقت ذاته- سلاحًا محتملًا يتطلب إستراتيجيات دفاعية متقدمة وابتكارًا مستمرًا لضمان الحماية وتقليل تهديدات مع اتساع نطاق استخداماته.
حيث رصد التقرير انتشار الأجهزة المتصلة المدعومة بتطبيقات إنترنت الأشياء إذ يتوقع ارتفاع أعدادها إلى أكثر من 32 مليارًا حول العالم بحلول عام 2030. ويقصد بها ربط البيانات وتبادلها ما بين الأجهزة والبرامج وأدوات الذكاء الاصطناعي عبر الإنترنت، بما يتيح التواصل التفاعل السلس بين الأنظمة الرقمية في تطبيقات التصنيع واللوجستيات والمدن الذكية. ليس هذا فقط فلدينا أكثر من 200 تقنية ناشئة تشكل النظام الرقمي في عالمنا اليوم.
هذا الاهتمام العالمي يؤكد الحاجة إلى نهج واسع وشامل لتقييم تأثيرات تطوير ونشر هذه التكنولوجيا، بحسب ما جاء بالتقرير، من أجل التعامل مع مخاطرها المحتملة وفي صدارتها أخطار الأمن السيبراني. إذ يمثل كل جهاز أو تقنية ثغرة أمنية ويزيد من نقاط الدخول المحتملة للهجمات الإلكترونية.
وفي دلالة واضحة على هذه التهديدات المحتملة أشار التقرير إلى الأصول الرقمية مثل العملات المشفرة التي تواجه ارتفاع الهجمات بنسبة تقدر بـ 51%.
الذكاء الاصطناعي "متهم"
وهكذا تزداد التوقعات بانتشار الجانب المظلم للتكنولوجيا مع التقدم المستمر في تقنيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي، ما قد يؤدي إلى ظهور أساليب جديدة في الاغتيال والسيطرة الإلكترونية. يأتي ذاك في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار لإقرار أول معاهدة بشأن الجرائم الإلكترونية خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة حاليًا. وذلك بعدما أقرت لجنة الأمم المتحدة المختصة بمكافحة الجريمة السيبرانية نص الاتفاقية الجديدة. حيث وصف هذا الاتفاق بالتاريخي بعد جولات عديدة من المفاوضات المكثفة التي استمرت لمدة ثلاثة أعوام بمشاركة ممثلي كافة الدول الأعضاء بالأمم المتحدة.
وبحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، تساهم التطورات المتحققة في مجال الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي دورًا رئيسيًا في الكيفية التي تتطور بها التهديدات والهجمات إذ يجعلها أكثر دقة في تحديد الهدف بدون الحاجة للسفر أو استخدام الآلات المعقدة وباهظة الثمن، كما يجعلها أكثر صعوبة في اكتشاف فاعلها من خلال تقليص دور العنصر البشري أو حتى إلغاء دوره، مما يتيح إمكانية ارتكاب تلك الهجمات على نطاق واسع. حيث يتيح الذكاء الاصطناعي استخدام الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل، فهي تعيّن هدفا محددا وتشتبك معه دون توجيه بشري، وبالتالي تنقل المسؤولية عن الحياة والموت من البشر إلى نظم البيانات.
ولعل الهجمات الإلكترونية تمثل أكثر تهديدات العصر الحديث انتشارًا، وتستهدف معظمها المصانع وشركات النفط والغاز. بينما تكمن في دائرة الخطر المنشآت الحيوية مثل أبراج مراقبة المطارات ومحطات الطاقة النووية والمستشفيات والبنوك والمؤسسات الحكومية.
كما تساعد التكنولوجيات الرقمية الأخرى على تهيئة مناخ تتوافر فيه فرص الوصول إلى الجميع. فالجماعات المتطرفة لديها اليوم سبل غير مسبوقة للوصول إلى عامة الجمهور عن طريق الإنترنت، عمليات التجنيد والتحريض والدعاية، فضلا عن شراء الأسلحة وإجراء التحويلات المالية غير الخاضعة للتنظيم.
الوجه المظلم للتكنولوجيا
تأثيرات الثورة التكنولوجية التي نعيشها اليوم ودورها في النزاعات الحديثة كما يوضح الدكتور محمد محسن رمضان، مستشار الامن السيبراني ومكافحة الجرائم الالكترونية، حولت الحروب من ساحة القتال التقليدية إلى ميدان جديد تُستخدم فيه التكنولوجيا كأداة رئيسية للصراع. لم يعد الصراع المسلح والجنود، بل أصبح يعتمد على التكنولوجيا والأنظمة الإلكترونية.
أحد أبرز العوامل التي ساهمت في تحول الحروب التكنولوجية إلى حقيقة كما يوضح الدكتور محمد محسن رمضان هو الاتصال العالمي عبر الإنترنت، وتكامل الأنظمة الإلكترونية بما ساعد على تطوير هذه الحروب تطورًا نوعيًا، حيث لم تعد تقتصر على التعطيل المؤقت للأنظمة أو اختراق البيانات، بل أصبحت تشمل هجمات معقدة تستهدف التسبب في أضرار مادية وبشرية كبيرة، مثل تعطيل محطات الطاقة، أو التحكم في الأنظمة العسكرية والاغتيالات.
وأصبح لدينا مفهوم الحرب الإلكترونية كما في التشويش أو تعطيل الاتصالات وأنظمة الرادار، أو جمع المعلومات الاستخباراتية باستخدام الإشارات والترددات الكهرومغناطيسية. وكذلك الحرب السيبرانية باستخدام الفيروسات، والبرمجيات الخبيثة، والاختراقات الإلكترونية لتعطيل البنية التحتية الحيوية، أو التسلل إلى الشبكات الحكومية والمؤسسات الخاصة لسرقة المعلومات أو تعطيل الأنظمة.
ويستطرد الدكتور محمد محسن رمضان، يوجد لدينا نوع ثالث من الحروب هي الهجينة والتي تجمع بين الهجمات الإلكترونية والعمليات العسكرية التقليدية لتحقيق أهداف شاملة. وكل نوع من هذه الحروب يحمل درجة خطورة تختلف وفقًا للهدف والتقنية المستخدمة.
وهكذا تعدد التهديدات وتزداد الاتهامات الموجهة للتقدم التكنولوجي الذي كشف عن وجهه السيء أو ربما إساءة استغلاله إن صح التعبير. حيث أصبحت الساحة واسعة ومتاحة لشراء المخدرات والأسلحة، فيما يقوم الإرهابيون باستدراج مؤيديهم وتجنيد المقاتلين.
مستقبل الجرائم الإلكترونية
هذا التطور يطرح تساؤلات حول مستقبل تزايد استخدام هذه الأدوات للأغراض الإجرامية والإرهابية التي تكبد العالم خسائر تقدر قيمتها تريليونات الدولارات سنويًا بحسب التقديرات الدولية. أحد التطورات الحديثة والخطيرة هو ما يُعرف بالاغتيالات الإلكترونية. هذه الظاهرة تشير إلى استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لتنفيذ عمليات اغتيال مستهدفة دون الحاجة لتدخل بشري مباشر. على سبيل المثال، يمكن التحكم في الطائرات بدون طيار لتنفيذ عمليات اغتيال دقيقة أو إحداث تفجيرات عن بعد.
كما ظهرت مجموعة من الجرائم الإلكترونية التي تهدد أمن الأفراد والدول كما يشير الدكتور محمد محسن رمضان، والتي تتنوع في طبيعتها وأساليبها، ما بين الهندسة الاجتماعية والاحتيال الإلكتروني إلى القرصنة وسرقة الحسابات. وتعتبر الهندسة الاجتماعية إحدى أكثر الحيل شيوعًا وفعالية المستخدمة في الجرائم الإلكترونية لاستهداف عقول البشر قبل الأجهزة. وتعتمد على التلاعب بالعواطف والمعلومات الشخصية للمستخدمين للحصول على بيانات حساسة أو لإقناعهم بتنفيذ أفعال ضارة. قد تكون الأساليب المستخدمة في الهندسة الاجتماعية عبارة عن انتحال الهوية أو استغلال الثقة، أو حتى استخدام وسائل السوشيال ميديا لتحديد نقاط الضعف الشخصية.
بينما تستهدف عمليات التصيّد الإلكتروني خداع المستخدمين من خلال رسائل بريد إلكتروني أو مواقع وهمية أو روابط مزيفة تبدو كأنها حقيقية. من اجل الحصول على بيانات حساسة مثل كلمات المرور أو معلومات بطاقات الائتمان، بما يسهل علميات سرقة الأموال والاستيلاء على الحسابات الشخصية. وما يختلف عن عمليات الاختراق والقرصنة كونها محاولة لاختراق جهاز أو شبكة بهدف سرقة بيانات أو التجسس وعادة ما تتم باستخدام البرمجيات الخبيثة أو الهجمات لإسقاط المواقع أو التحكم في الأنظمة.
كما زادت التقنيات التكنولوجية الحديثة من معدلات النصب الإلكتروني، للاحتيال على المستخدمين في عمليات شراء مزيفة أو استثمارات وهمية. أو ابتزازهم عن طريق التهديد بنشر بيانات حساسة ما لم يتم دفع فدية.
نوع أخر من الحروب يلفت الدكتور محمد محسن رمضان وهي التضليل الإعلامي، حيث يتم استخدام تقنيات التكنولوجيا لنشر الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة عبر الإنترنت بهدف التأثير على الرأي العام أو زعزعة استقرار الدول. إذ يمكن استخدام تقنية التعلم العميق التي تقوم على الذكاء الاصطناعي لإعداد صور ومقاطع صوت وفيديو مزيفة لأحداث لم تقع وأشخاص ينطقون بكلمات لم يتفوهوا بها.
إذ تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي منصات قوية تؤثر بشكل مباشر على الأفراد، كونها جزءً من حياتهم اليومية وتؤثر على مشاعرهم وسلوكهم وحتى قراراتهم. ولكنها في نفس الوقت تمثل منصة خصبة للتأثير السلبي من خلال نشر الشائعات والأخبار المزيفة. كما أن الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى عزلة اجتماعية وتقليل الإنتاجية، وفى بعض الأحيان يتم استخدام السوشيال ميديا في عمليات النصب والاحتيال وجمع البيانات بطرق غير قانونية.
ويؤكد الدكتور محمد محسن رمضان علي ضرورة التأهب لمواجهة هذه التهديدات من خلال الاستثمار في التكنولوجيا الدفاعية وتعزيز الوعي. بما يساهم في الحد من المخاطر وضمان حماية مجتمعنا وأمن بلادنا في العصر الرقمي.
حلول الحماية والتكامل الدولي والمحلي
تضمين ميزات الأمان في التقنيات الجديدة منذ البداية، لم تعد كافية في مواجهة مشهد التهديدات التكنولوجية المعقدة والمتطورة بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، بدلًا من ذلك، اشتملت التوصيات على الحاجة الملحة إلى تبني نهج دولي يتسم بالإجراءات المرنة والتوازن بين الابتكار والأمن. إذ لابد أن تتجاوز مجرد الحماية لضمان قدرة الأنظمة على الصمود والتعافي من الهجمات الحتمية التي ستحدث مع استمرار اتجاه هذه التقنيات في التطور والانتشار. ولفت التقرير إلى عدد من التحديات الحالية مثل سرعة التقدم التكنولوجي التي غالبًا ما تتجاوز الأطر التنظيمية الموضوعة حاليًا، مما يخلق فجوات في الحوكمة. فضلًا عن قلة أعداد المتخصصين في الأمن السيبراني من ذوي الخبرة في التقنيات الناشئة بما يزيد من تحديات التأمين والاستجابة للتهديدات المتطورة.
وفي سبيل تقديم حلول فعالة ومستدامة اقترحت توصيات التقرير تعزيز الشراكات بين الحكومة والصناعة والأكاديميين لمعالجة تحديات الأمن السيبراني على المستوي الدولي، وتطوير ما يستلزم من أطر تنظيمية، وكذلك تعزيز الاستثمار في البحث والتطوير لإنشاء حلول مبتكرة للتهديدات الناشئة، بما في ذلك تقنيات تشفير جديدة وأدوات أمن سيبراني مدفوعة بالذكاء الاصطناعي. وتوحيد ممارسات الأمن السيبراني وآليات المراقبة المستمرة لبيئات التكنولوجيا الناشئة.
لذا أصبح الاستثمار في تطوير التقنيات الدفاعية السيبرانية وبناء فريق من الخبراء المتخصصين في الأمن السيبراني أمر حتميًا بحسب قول الدكتور محمد محسن رمضان من اجل الحفاظ على أمن الدول. حيث أصبحت تقاس قوة الدول بمدى القدرة على التحكم في التكنولوجيا وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وتحليل البيانات الضخمة. الدول التي تمتلك بنية تحتية قوية في مجال الأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات تعتبر اليوم قوى عظمى في الساحة الإلكترونية.
وأشار إلى جهود مصر في مجال الامن السيبراني وتعزيز رؤية مصر الرقمية. حيث وضعت مصر عدة استراتيجيات وطنية لتعزيز الأمن السيبراني تشمل وضع سياسات لحماية البنية التحتية الحساسة، وتأمين الفضاء الإلكتروني، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الأمان الرقمي. كما أقرت مصر قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لعام 2018، الذي يتعامل مع الجرائم السيبرانية، ويهدف لحماية البيانات الشخصية والمؤسسات من الجرائم الإلكترونية. ويجرّم الاختراق غير المشروع لأنظمة المعلومات وحماية حقوق الأفراد في الفضاء الإلكتروني.
ولفت إلى دور المجلس الأعلى للأمن السيبراني في وضع وتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية المعنية بالأمن السيبراني بالتنسيق بين مختلف الجهات الحكومية والخاص. وكذلك للتعامل مع الحوادث الأمنية السيبرانية وتقديم المساعدة الفنية لمواجهة الهجمات. من خلال مركز الاستجابة لطوارئ الحاسب الآلي. فضلا عن بناء القدرات وتدريب الكوادر في مجال الأمن السيبراني من خلال عدد من المبادرات الرائدة بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات الدولية.
ولأن الحروب التكنولوجية ليست موجهة فقط للدول، بل تطال الأفراد، ينصح الأشخاص باتخاذ التدابير الوقائية لسه. من خلال تأمين بياناته الشخصية باستخدام برامج الحماية والتشفير، تحديث الأنظمة والبرامج بشكل دوري لتفادي الثغرات الأمنية، تجنب مشاركة المعلومات الشخصية أو الحساسة عبر الإنترنت إلا في الضرورة القصوى، الحذر من التطبيقات والمواقع غير الموثوقة التي قد تحمل برمجيات خبيثة وتجنب الروابط المشبوهة، وكذلك استخدام كلمات مرور قوية ومزدوجة التحقق.