يتردد اسم فلسطين في العالم يوميا آلاف المرات، يتحول إلى أغنية، يصعد الفتى حنظلة من الحطام والرماد، يتشكل على هيئة طير، يستعيد أسطورة طائر الفينيق الذى يخرج من الرماد، يجعله ناجى العلى بريدا مشفرا يسافر إلى حواضر الدنيا، يحمله الحمام الزاجل برفق ومحبة.
كم كنت وحدك، يا ابن أُمي، يا ابن أكثر من أَب، كم كنت وحدك، قال محمود درويش.
وجه يافا طفل، هل الشجر الذابل يزهو؟ قال أدونيس.
يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا، قال نزار قباني.
نستطيع إذن أن نطير إليها، قال أحمد عبد المعطى حجازي.
أما جبر إبراهيم جبرا فشرب من البئر الأولى، وعرف الحنين إلى الزيتون.
فى آخر أيامه كتب محمود درويش قصيدة خالدة، سماها" مرثية لاعب نرد"، تلبسته فلسطين المكان والزمان، كأنها لاعبة نرد، شاء حظها أن يفتن بها الغرباء، ومقطوعو النسب، يأتونها من كل فج عميق، هاربين من أفعالهم التى عوقبوا عليها في مكان وزمان يبتعدان عن فلسطين بآلاف الأميال.
عوقبوا في أزقة مغلقة، أزقة معتمة، ممنوعة المصابيح، يحملون خرافاتهم في خرق بالية، يحملونها إلينا، يقتلون الأطفال والنساء، هكذا سجلت لهم الخرق البالية، علمتهم البكاء على الحوائط الصماء، صدقوها بيقين، أرادوا أن نؤمن بها بالحديد والنار، لا نقول لا، وإلا فالوحش القاتل في انتظارنا، يتخلق في مصانع الموت على شاطئ نهر المسيسبى الأمريكي، يحصد الناس كما المناجل في القمح.
هل عرفوا أن القمح اكتشف في فلسطين قبل عشرة آلاف عام، هل سمعوا عن ملكى صادق الملك الفلسطينى الذى كان يكرم وفادة الضيوف وأبناء السبيل، وهل قرأوا خبرا عن العرب اليبوسيين بناة القدس قبل ستة آلاف عام؟
كانوا عابرين في كلام عابر، لم يجدوا وقتا ليعرفوا أو يسمعوا أو يقرأوا، أدركتهم حرفة الموت، وقطع الأشجار، وتسميم الآبار، وكراهية الصبيان والبنات.
هل يكون الموت نهاية حقا؟ هل يموت الذى كان يحيا كأن الحياة أبد كما يقول أمل دنقل؟
كانوا عابرين فلم يدركوا المعنى، ولم يترك لهم أسلافهم خبرا بأن الحى يولد من الميت، والميت يولد من الحى كالقمح القديم.
ستولد فلسطين، وتخرج من بين الرماد، تنهض ومعها الإقليم العربى برسالة عنوانها: لسنا الإقليم الرخو كما تظنون، ولسنا ميدانا للتنشين كما تخططون، ولن نسقط في شرك تفتيت الدول والأمم والشعوب كما تكتبون.
فثمة مصر في الإقليم، وإن كثر الأعداء والمنافسون والخصوم.
كانوا عابرين فلم يعرفوا أنها نواة الإقليم الصلبة، جربوها، أعادوا التجربة مرة وراء مرة، وفى كل مرة يعودون منكسرين مهزومين، كم غزوة، كم حملة؟
يقول محمد على باشا، مفتاح الديار المصرية في الشام، جاء هذا الألباني، من أعماق أوروبا الأصلية إلى بلاد النيل، اكتشف المعادلة، عرف الأبواب، طرق عليها بقوة العارف، بعض الناس يجهلون ما عرف هذا الألبانى الذكى من عبقرية المكان والزمان.
الشام خط الدفاع الأول عن المحروسة، وفلسطين الشام الجنوبية، كما كانت تسمى في الزمان البعيد، تلك التى جاءوها بليل، طرقوا أبوابها، فتحت للضيوف، تكالبوا عليها، استعادوا حكاياتهم في الحارات المسدودة، وحكاياتهم لا تصلح للرواية، لا تصلح أن تكون فصلا في ألف ليلة وليلة العربية.
يسجل التاريخ بدقة أن القتلة يجيئون حاملين بلطاتهم من الشرق دائما، قل عشر غزوات، أو مائة، أو ألفا، مرة وحيدة جاءوا من الغرب أيام الفاطميين، وأيام الألمانى روميل، والإنجليزى مونتجمري، وذهبا معا إلى النسيان، وكذلك سينسى العابرون في طيات الزمن الآتي، فلا تسقطوا في هوة اليأس، ولا تبكوا معهم على الحوائط الحجرية، ولا تجعلوا السيف يحاور الرقبة، كما قال عن حق غسان كنفاني.