تنهمك إيران وإسرائيل حاليًا في ممارسة لعبة شد الحبل، والتوقعات المرئية وغير المرئية للضربة الإسرائيلية الوشيكة لأهداف داخل الأراضي الإيرانية، بينما تدور وراء الكواليس أشياء وتفاهمات وصفقات خفية بين الأطراف المتصارعة، حتى لا يفلت الزمام من الجميع، وتلحق الخسائر الفادحة بهم وبمصالحهم الحيوية، التي يحرصون على المحافظة عليها وعلى ما تجلبه من منافع ومزايا إستراتيجية واقتصادية.
وأصدقكم القول فإن الولايات المتحدة وإسرائيل نجحتا -وببراعة مشهودة للأسف- في استدراج شعوب المنطقة والعالم للانشغال بحل لغز التخمينات، وما إذا كانت إسرائيل سوف تستهدف -في ردها على الهجمات الصاروخية الإيرانية على تل أبيب، انتقامًا لاغتيال زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله- المنشآت النفطية والنووية لإيران، وأن واشنطن تضغط على بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل، للالتزام بجانب العقل والاتزان بشطب مثل هذه المنشآت من قائمة الأهداف.
يحدث ذلك لصرف الأنظار عن أمور وحقائق مخزية ومخجلة مرتبطة بالتوصيف الحقيقي والواقعي لما يجرى الآن بالمنطقة التي تعربد فيها القوات الإسرائيلية بدون رادع ولا زاجر، وأولها أننا عمليًا وسط غمار حرب إقليمية لا لبس فيها، وإلا بماذا نسمي ما نشاهده في لبنان وسوريا واليمن يوميًا من هجوم وهجوم مضاد، وحشد أمريكا قواتها الضاربة وأساطيلها وحاملات طائراتها بالشرق الأوسط، لتكون على أهبة الاستعداد لنجدة تل أبيب، وتزويدها بما تحتاجه من عتاد وسلاح ومعلومات استخباراتية؟
يتصل بهذا أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، باتت تعتبر إيران عدوها الأول والأخطر، بعدما كانت تنظر إلى الصين كعدوها اللدود الذي يتعين تحجيمه والتقليل من مواطن نفوذه وقدرته على التأثير إقليميًا ودوليًا، ولنرجع لتصريح لافت صادر في التاسع من الشهر الحالي من "كامالا هاريس" المرشحة الديمقراطية في انتخابات الرئاسة الأمريكية ونائبة بايدن، وأكدت فيه أن إيران تشكل الخطر الأول على بلادها وليست الصين، وهو ما يعني حدوث تحول جذري ودراماتيكي في التوجه الإستراتيجي والسياسي لمؤسسات صناعة القرار الأمريكي.
وتشارك واشنطن تل أبيب نظرية وواقع أن الفرصة سانحة اليوم وليس غدًا، لتوجيه ضربة مشتركة قاصمة للنظام الإيراني تجعله غير قادر مستقبلًا على مناوأة الطرفين، وتقليص مواضع نفوذه، لا سيما في لبنان وسوريا لقربهما من الحدود مع إسرائيل، فضلًا عن أنه مستقر لدى المسئولين الأمريكيين فرضية، أو لنقل، حتمية ألا تصبح طهران قوة نووية بأي ثمن، لأن من شأن ذلك الإخلال بموازين القوى بالإقليم، وتهديد أمن واستقرار الابن المدلل إسرائيل الخائف من ترسانة طهران الصاروخية -التقليدية وغير التقليدية- ويود القضاء عليها.
ولا يساورني أدنى شك في أن الإسرائيليين أقنعوا الدوائر الأمريكية المعنية بأن التطورات الجارية لا يوجد أنسب ولا أفضل منها لتحقيق أغراضهما المشتركة، وأنه عليهما انتهاز الفرصة السانحة وعدم تفويتها والتفريط فيها وتوجيه ضربتهما، ولذا فإنني أعتقد أن الضربة القادمة لإيران ستنفذ بالتعاون الوثيق بين واشنطن وتل أبيب، ليس فقط عبر التنسيق والتشاور والإمداد بالمعلومات المخابراتية والتسليح وخلافه، بل أيضًا بالتنفيذ بأرض العمليات، حتى تفرض إسرائيل تصوراتها ورؤيتها لمستقبل الأوضاع بالشرق الأوسط كيفما شاءت وارتأت، بحيث تصبح لها الكلمة المسموعة والنافذة دون أن ينازعها أو يقاومها أحد، وتواصل تنفيذ سياسات البلطجة واستعراض القوة الذي تحبذه، فهي لا تقوى على البقاء دون انخراطها في حرب وإشعال أزمات.
أما الأمر الخارج عن حسابات أمريكا وإسرائيل فهو الإجابة عن السؤال الحرج والأكثر إلحاحًا: وماذا بعد مهاجمة إيران؟
فالإشكالية ليست في إتمام الهجوم الأمريكي الإسرائيلي، ولا الأماكن التي سوف يستهدفها، ولكن فيما سيليه، فما أيسر ولا أسهل من قرار الحرب، غير أن الأصعب هو إيقافها وحصر ما ستخلفه من فواجع وكوارث عسكرية واقتصادية وسياسية وبشرية، وما سيترتب عليها من رواسب وأحقاد ورغبة في الثأر وتصفية الحسابات العابرة للأجيال، وواضح أن كل ما سلف ليس على رادار الحليفين الأمريكي والإسرائيلي.