صورة من ستة وزراء خارجية يتوسطهم وزير الخارجية السابق سامح شكري.. فقد فكر الوزير الجديد الدكتور بدر عبدالعاطي في تكريم أستاذه الوزير شكري، ودعا في حفل التكريم آخر أربع وزراء خارجية على قيد الحياة، أمد الله في أعمارهم وعطائهم.
لقد أثارت الصورة في بهو قصر الخارجية القديم تداعيات حول مدى العمق الذي تمتد إليه الحركة الوطنية المصرية، في واحدة من أهم تجلياتها، وهي مؤسسة الخارجية، كمدرسة وطنية، وكأحد أهم الركائز والأعمدة الأساسية التي تقوم عليها البلاد وتحمي أولوياتها ومقاصدها، ربما لم تكن "الخارجية" قديمة قدم مؤسسات أخرى كالأزهر والجيش والمدارس، لكنها انضمت بكفاءة ومارست عملها بإتقان.
جمعت الصورة المعبرة: عمرو موسى وأحمد أبوالغيط ومحمد العرابي ونبيل فهمي ومحمد كامل عمرو مع بدر عبدالعاطي، وطبعا المكرم سامح شكري، في امتنان "دبلوماسي" كشف عنه الوزير الأحدث د. بدر عبدالعاطي.
ولقد تولى "نظارة" ثم "وزارة" الخارجية عبر تاريخها الطويل 75 شخصية مصرية مرموقة، وكانت الـ"نظارة" قد تأسست في 28 أغسطس سنة 1878 في عهد رئيس مجلس النظار نوبار باشا، وظلت "نظارة" حتى 19 ديسمبر 1914، حيث سميت "وزارة". وكان لتعاملات الخارجية شكل ما في عهد محمد علي باشا تحت اسم "ديوان" التجارة والأمور الأفرنكية، والذي اهتم بالتجارة ومعاملات الأجانب.
تولى رئيس مجلس النظار نوبار باشا نظارة الخارجية بالإضافة إلى منصبه، وغالبًا ما كان رئيس النظار ثم رئيس الوزراء فيما بعد يتولى الخارجية، واستمرت "النظارة" حتى رئاسة حسين رشدي باشا للحكومة ولمنصب وزير الخارجية سنة 1914، ثم ألغيت وزارة الخارجية في أكتوبر سنة 1917 في حكومة حسين رشدي باشا الثانية، بسبب إعلان الحماية البريطانية على مصر أثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها (من 1914 ـ 1922).
وعادت وزارة الخارجية في 1 مارس سنة 1922 بعد يوم واحد من تصريح 28 فبراير باستقلال مصر الذي أصدرته بريطانيا من طرف واحد بإنهاء الحماية على مصر، والاعتراف باستقلال مصر وسيادتها، لكن اليوم الذي تحتفي فيه الدبلوماسية المصرية بعيدها هو 15 مارس 1922؛ حيث أسندت حكومة يحيى إبراهيم باشا الخارجية إلى أحمد حشمت.
وتقول أوراق الخارجية المصرية إن حشمت باشا، الذي أمضى أربعة أشهر فقط في منصبه، هو من أعاد إنشاء وتأسيس الخارجية المصرية بمعناها الحالي، واتخذ قصر البستان بباب اللوق تبرع به الملك فؤاد الأول، مبنى للوزارة.
وفيما بعد وبالتحديد سنة 1930 تم نقل مقر الخارجية إلى قصر التحرير، الذي أهدته الأميرة نعمة الله كمال أبنة الخديو توفيق للوزارة، ثم أصبح مبني زهرة اللوتس على النيل في منطقة ماسبيرو مقرًا، انتقلت منه أخيرًا إلى العاصمة الإدارية الجديدة.
كل هذه الأرقام والتواريخ تشير إلى ارتباط الخارجية كنظارة أو وزارة بتاريخ ونضال مصر السياسي؛ فقد طورت الخارجية التمثيل الدبلوماسي، أو كما سماه المؤرخ الدكتور يونان لبيب رزق ببناء الجهاز الدبلوماسي المصري بالخارج، وتجسد دورها النشط في انضمام مصر إلى عصبة الأمم سنة 1937، وتوسعت اختصاصاتها وانشطتها بحلول العام 1945، مع تأسيس جامعة الدول العربية، وانضمام مصر إلى الأمم المتحدة.
وفي كل مرحلة كان جهازها التنظيمي ينمو ويتطور بفعل رؤى قياداتها وخبراتهم المكتسبة والمتراكمة.
وبعد ثورة يوليو 1952 كان على الخارجية المصرية مهام الدفاع عن السياسة المصرية الجديدة في إفريقيا ودول العالم الثالث، وأمام الغرب والشرق، في قضايا التحرير والخروج من التخلف والتدهور الاقتصادي جراء النهب الاستعماري المنظم.
وفي ملفات عدم الانحياز ومقاومة ألاعيب الاستعمار في مفاوضات الجلاء، وفي شرح وكسب التأييد الدولي لتأميم قناة السويس، وكذلك دورها في أزمة العدوان الثلاثي على مصر، ومجابهة أساليب الغرب في تعطيل مشاريع التطور، ومقاومة الأحلاف في المنطقة، وقيام الوحدة مع سوريا، وفي محاولة الحد من أشكال الدعم الغربي لإسرائيل، رغم أنه لم يكن في يوم من الأيام مثل الدعم الحالي المريب وغير المشروط.
كانت الخارجية بأجهزتها وأساليبها ونخبتها جاهزة طول الوقت لمجاراة التطور السياسي في مصر، فالفترة الأولى من عمرها دخلت معترك النضال من أجل الاستقلال، وفي عهد عبدالناصر خاضت معارك الوطن وما كان أكثرها، ولما تغيرت البوصلة في زمن السادات اشتغلت على قضية الحرب، ثم عانت بعض الوقت، وتصدر المشهد استقالات شهيرة من وزراء خارجية، لكنها عادت سريعًا لتخدم قضية السلام.
وفي عصر مبارك استمرت السياسة الخارجية المتوازنة، والمتناغمة مع أهداف الحكم، سواء في مكافحة الإرهاب أو الحد من تغول إسرائيل ومحاولاتها خلق أوضاع جديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط بغداد.. إلى أن اندلعت ثورة يناير 2011، وبعدها لم يتمكن حكم الإخوان من اختراق مؤسسة الخارجية المصرية، والتي حافظت على دورها وتأثيرها وعلاقاتها.
وربما حكم الإخوان القصير نسبيًا، هو الحكم الوحيد الذي لم تشتغل الخارجية المصرية على شرحه وتقديمه والدفاع عنه في العالم، بسبب طبيعة الخارجية نفسها كمؤسسة وطنية غير حزبية، وأيضًا بسبب هشاشة وتهافت الحكم الإخواني.