من الغريب كيف يتحول المزاج العام الدولي فجأة من الأمل في تسوية النزاعات إلى مخاوف جدية من تفجر "نزاعات خامدة" إلى حروب نووية، بل يبشرنا الرئيس الأمريكي السابق بأمكانية حرب عالمية ثالثة، ويدعو مواطنيه لانتخابه حتى يضع حلًا سريعًا للحرب في أوكرانيا، والحرب في الشرق الأوسط، وعقد اتفاق سلام مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، فقد تبادلا الرسائل والتقيا من قبل، وغادر ترامب منصبه دون أن يتم الاتفاق التاريخي مع كيم.
والآونة الأخيرة جرى تسخين الخلاف الخامد في شبه الجزيرة الكورية، فقد كان المشهد محصورًا في مناوشات ومناورات متبادلة من الطرفين، ومحاولات لبناء الثقة والانفتاح من جانب سول سرعان ما تتعرض لانتكاسة تعود بآمال توحيد الكوريتين سنوات طويلة إلى الوراء.
والآن يهدد زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون باستخدام الأسلحة النووية إذا حاول أعداء البلاد استخدام القوة المسلحة ضدها، وجاء هذا التحذير بعد ستة أيام من تصريح الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول بأن كوريا الشمالية ستواجه نهاية نظامها إذا حاولت استخدام الأسلحة النووية، محذرًا من رد "حازم وساحق" من التحالف بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة.
وفي وقت لاحق وصف كيم الرئيس يون بأنه "رجل غير طبيعي" لحديثه عن الإجراءات العسكرية ضد كوريا الشمالية المسلحة نوويًا.
وتأتي هذه التصريحات الأخيرة وسط توترات مستمرة في شبه الجزيرة الكورية، حيث أطلقت كوريا الشمالية بالونات تحمل القمامة تجاه الجنوب ردًا على المنشورات المناهضة لبيونج يانج التي أرسلها المنشقون الكوريون الشماليون، والناشطون في كوريا الجنوبية إلى الشمال.
وردًا على ذلك، كان الجيش الكوري الجنوبي يبث دعاية يومية مناهضة لبيونج يانج عبر مكبرات الصوت على طول الحدود منذ 21 يوليو الماضي.
وأحسب أن الحسابات المنطقية تقول أن الظروف ليست مهيأة بعد للحديث عن وحدة سلمية، ولا توجد أسباب واقعية تبرر الاندفاع إلى حرب ستكون مدمرة بلا شك، وأغلب الظن أن كوريا الشمالية سوف تستخدم السلاح النووي إذا شعرت بخطر وجودي يهدد النظام، ومن المفيد هنا أن نتوقف لقراءة خطاب كيم بعد تهديده باستخدام السلاح النووي.
..وأول ملاحظة هي تأكيد زعيم كوريا الشمالية موقفه بأن كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية "دولتان معاديتان لبعضهما البعض"، ومن ثم هذه نقطة البداية لتبريد الموقف، فهو يدعو ضمنيًا للتوصل لتسوية تنهي الحرب أولا.
.. والملاحظة الثانية الأخطر في تقديري هي هذه الجملة المفتاح، والغرض الأساسي من الخطاب، والتي تعكس تحولًا جوهريًا في سياسة بيونج يانج من الأزمة الكورية؛ فيقول كيم بوضوح "في السابق، تحدثنا عن تحرير الجانب الجنوبي أو التوحيد بالقوة، لكن ليس لدينا مصلحة في ذلك، ومنذ أعلنا موقف الدولتين المنفصلتين، لم نكن على دراية بذلك البلد، وليس لدينا نية لمهاجمة جمهورية كوريا، ومن المخيف حتى أن نكون على دراية بذلك البلد ولا نريد مواجهته".
..إذن هذه هي رؤية الزعيم الكوري الشمالي للحل: تسوية لإنهاء حالة الحرب، دولتان منفصلتان، التوقف عن التوحيد بالقوة، والتوقف عن التهديد بمهاجمة كل منهما الآخر، إلا أنه كان مدركًا لأخطر ما يمكن أن يهدد نظامه، وهو العلاقات الطبيعية والانفتاح على كوريا الجنوبية.. ووفقًا لوصفه "من المخيف أن نكون على دراية بهذا البلد"، وأحسب أن هذا الجزء موجه لشعبه، وكذلك الجزء الخاص بالتهديد باستخدام النووي.
ومن هنا سوف نلاحظ كيف أعاد تهديده باستخدام "كل القوة العسكرية دون تردد إذا حاول الأعداء استخدام القوة ضد بلدنا، ولن يتم استبعاد استخدام الأسلحة النووية" وقال كيم في خطاب ألقاه خلال زيارته لجامعة كيم جونج أون للدفاع الوطني يوم الإثنين الماضي، وفقًا لوكالة الأنباء المركزية الكورية، إن كوريا الشمالية ستسرع من تحركها لتصبح قوة عظمى عسكرية ونووية؛ في محاولة لتعزيز ردعها النووي، وأوضح أنه في الوقت الذي تحول فيه التحالف بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة بالكامل إلى تحالف نووي، كما أعلنوا، أنه يجب أن يكتمل موقف الرد النووي لأمتنا إلى مستوى لا حدود له.
ويبدو من التهديد المتكرر أن النظام الكوري الشمالي لديه مخاوف جدية من مغامرة واشنطن وكوريا واليابان والناتو الآسيوي المراد تشكيله بسرعة في اختيار بلاده لتكون ساحة الحرب بالوكالة مع الصين، ومما يعزز المخاوف هو التقارب الكبير بين كوريا الجنوبية والفلبين مؤخرًا، وفي المقابل كشفت كوريا الشمالية عن منشأة سرية لتخصيب اليورانيوم النووي لأول مرة في الشهر الماضي، في محاولة واضحة لإظهار أن بيونج يانج ليس لديها نية للتخلي عن ترسانتها النووية، وهذا يعكس رهان كيم على قدراته الذاتية، واعتماده على روسيا أكثر من الصين، ومن غير الواضح إلى أي مدى سوف تتورط بكين في دعم كوريا الشمالية، وهي التي تدعوه دومًا لعدم التصعيد، واختارت في مرحلة سابقة الانضمام إلى العقوبات الدولية ضد كوريا الشمالية.
..ويبقى أن المناوشات وتصعيد لهجة التهديد شيء، وتنفيذ التهديدات شيء مختلف تمامًا وأحسب أنه لا أحد عاقل سوف يغامر بحرب نووية.
وربما ما سوف نراه هو تصعيد في حرب باردة جديدة ضد الصين تتشكل ملامحها الآن في تحالفات وشراكات عدة تعقد في آسيا، وحول الصين، ومحاولة لحصار اقتصادي، وتأزيم المناطق المجاورة لها، وإخراجها مع حلفائها، واختبار المدى الذي يمكن أن تذهب إليه بكين في الدفاع عن مصالحها وأمنها القومي، كل هذا ممكن، بالونات قمامة ومنشورات دعاية مضادة نعم، أما حرب نووية فلا.
إلا إذا كان هناك مغامر أو شخص يائس!!