فى لحظات فارقة بين الحياة والموت كنت أعيش على جمر من نار، اصطلي به، تكتوى، خلجات نفسى، حمم من الأحاسيس وتناقضات لا أستوعبها تتشكل أشباحًا مرعبة فى مخيلتى، صوت يأتينى من بعيد يفرض سطوته، يأمرني بالرحيل!
موضوعات مقترحة
جدار الوحدة الذى أستتر به صامت فى سكون القبر، أصرخ، أستغيث بمن هم ذوو رحمى، يشتق الجدار عنهم ذئابا شرسة، تلتهمنى، أتمزق بين أنيابهم أشلاء إنسانة.. لم يعد هناك خلاص مما أنا فيه غير التعلق بذلك الصوت الآتي من بعيد واتخاذ القرار بالرحيل، اختلطت الأشياء فى عقلى وضاعت ملامحها، اهتزت كل الصور وبدا لى طريق النهاية ممهدا، أمسكت بالسكين، أقاوم رعشة مزلزلة وخوفا مطبقا، تتلاحق أنفاسى كطلقات الرصاص تقتل إرادة الحياة فى نفسى، يجتاح نصل السكين أوتارى خاطفا، الذئاب ترتوى بدمائي ويغرق حب أغواه المال طمعا فتحول إلى إحساس مخادع، شبح يتراقص أمامى رقصة الموت الأخيرة، يضحك فى هيستريا بينما تتسرب الحياة ويتلاشى النور من عينى إلى الأبد..!
كانوا كلهم إلى جوارى، نظراتهم كلها ريبة وشك، يتساءلون فى صمت عن سبب انتحارى، أنقذونى من موت محقق والدهشة تحاصرهم، اقترب منى أخى الأصغر، حاول أن يتكلم فطلبت أن أتكلم إليه منفردا، كان أقرب أشقائى لى حبا ورعاية وهو الوحيد الذى يمكن أن يتفهم أزمة فتاة وحيدة رغم كثرة أشقائها وما يمكن أن يفعله بها الحب لإنسان معدوم الضمير يتوارى خلف وجه ملائكى والشر يملأ نفسه طمعا فى مالى.
قلت لأخى حكايتى مع الرجل الذى أحببته وتزوجته سرًا بورقة عرفية واستولى على كل ما معى من مال ومشغولات ذهبية وسرق وثيقة الزواج العرفية وغادر حياتى، ذهبت إليه، رجوته أن لا يفضحنى ويتزوجنى رسميًا ولكنه عاد يساومنى على أموال طائلة أعطيها له مقابل زواجه منى، ضاقت بى الدنيا واختنقت أنفاسى خوفا ورعدة إن علم إخوتى ما أنا فيه ولم يكن أمامى غير التخلص من حياتى ولكن القدر كان يريد لى شيئا آخر فقد أنقذنى إخوتى من الموت لأواجه مأساتى وأواجههم.. وعلى غير ما توقعت منهم شرا وقسوة، وجدتهم يترفقون بى ويحيطوننى بحنان ورعاية لم أعتدها منهم وافتقدتها منذ وفاة أمى ووالدى، بل سارعوا بحل المشكلة ولا أدر كيف أتوا بالحبيب المحتال واستعادوا منه كل ما حصل عليه منى وطلبوا منى أن أبدأ حياتى من جديد وأطوى تلك الصفحة السيئة من عمرى إلى الأبد..!
أنا الآن أعيش حالة من عدم التوازن النفسى، لست قادرة على فهم الأمور من حولى ولا اتخاذ قرار فى كل شء، ألوذ بالصمت المطبق، تائهة لا أدري إن كنت فعلا على قيد الحياة ونجوت من الموت الاختياري الذى أردته لنفسى أم أنى مت فعلا وما كل هذا إلا إرهاصات النهاية وتداعيات صور حياتى الأخيرة، لم يكن لى غير صديقة قريبة من نفسى تعرف عنى كل شيء إلا تجربتى الأخيرة وعذاباتى فيها وكم عنفتنى عندما أخبرتها ولفظتنى من حياتها ووصمتنى بأبشع الصفات ما أدخلنى فى دوامة نفسية مميتة ولكنها إلى جوارى الآن تعتذر لى وتخفف عنى، تؤاذرنى وتدفعنى لتجاوز أزمتى، اصطحبتنى لطبيب نفسى حتى استعدت تأهلى للحياة وتخلصت من هاجس الصمت وخيالات الخوف وهدأت نفسى بعض الشيء غير أنى عدت لوحدتى وجدران الصمت ولكن باختيارى هذه المرة فإخوتى لم ينقطعوا عنى ولا صديقتى ولكنى وجدت فى عزلتى ما يريحنى رافضة التعامل مع كل البشر لا أثق فى شيء، حتى هذه المشاعر الجميلة التى كنت أؤمن بها وأجد أن الحياة بلا رومانسية لا تساوى شيئا، تلك الأحاسيس باتت مشوهة باهتة أرتعد منها وأراها خطرًا داهمًا لابد وأن أتجنبه، ترى هل تقف الحياة عند هذا الحد من الاعتزال والتجمد؟ لا أدري ولكنى رافضة لكل من يقترب منى لم يعد لى ثقة فى أحد، كنت أقرأ فى الماضى وأنا طالبة فى اقتصاد وعلوم سياسية أن هناك فلسفة للفيلسوف ميكيافيلى تقوم على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وكنت أنا الغاية التى بررت تحطيمى وقتلى نفسيا.
أتساءل هل يمكن لى التعايش بهذا المنطق مع غلبة المصلحة فى كل تعاملاتنا الإنسانية وسيطرة المادة عليها حتى فى أحاسيس الحب والتواصل الإنسانى المقدس؟
لا تستقيم حياة بلا حب حقيقى ولكنى لم أعد قادرة على فتح أبواب أحاسيسى لتيارات مشاعر حادة قاتلة مرة أخرى، ولو أنى قبلت الزواج من أى واحد من هؤلاء الذين يطرقون بابى الآن ويحاول أشقائى إقناعى بالقبول به لكانت حياته تعيسة بائسة فأى حياة يجدها فى أشلاء امرأة تتوافق مع حياتها بالكاد، هشة، ضعيفة، أنهكتها الصدمات وأماتتها على قيد الحياة..!
أكتب لك تنفيذا لنصيحة صديقتى وإن كنت لا أثق فى وجود حل عندك لما أنا فيه فذلك قدرى ومحتوم على أن أعيشه وأتجرع مرارته حتى النهاية ولكن يكفينى أنى تخففت بعض الشيء وأخرجت ما فى نفسى لعلى أتنفس الصعداء من وحدتى وصمتى.
لست يائسة ولا قانطة من رحمة الله عز وجل فأنا أصلى وأقرأ القرآن الكريم وألوذ به كل ليلة كى تستريح نفسى ويطمئن قلبى ولكنى أقرأ الصورة جيدا من خلال أزمتى وأحكم على مقتضيات الحياة بما هو سائد فيها ولولا رحمة من الله لما كنت على قيد الحياة ولعله سبحانه وتعالى يغفر لى ذلتى وإقدامى على قتل نفسى التى حرم الله إلا بالحق وهو الغفور الرحيم.
م . ل
من قال يا ابنتى أنك في حاجة إلى حل، فأنت بالفعل قد وصلتى لشيء من التوافق مع نفسك جعل من حياتك متوازنة إلى حد كبير، ولكن كما قلتى أنت كان لابد من أن تنفثى عن نفسك ما يجيش بها من صراعات وتوترات كى تهدأ الروح منك، وإن كنت أعذرك في أمر أوافقك عليه مرحليا فرفضك أى نوع من الحياة في تجربة عاطفية جديدة ليس هو منتهى الأمر منك، فالحياة مازالت أمامك فأنت ابنة العشرين لم تخطُ قدماك كثيرًا في طريق الحياة، وما انغرس في قلبك من أشواك ليست إلا لحظات ألم خاطفة سرعان ما تغادرك إن شاء الله، ولعل ذلك قريب بإذن الله، وصدق المولى في محكم آياته من سورة الزمر عندما قال "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (53)