"جاءت مصر ثم جاء التاريخ".. إنها حقيقة تاريخية ثابتة لا جدال فيها.. وإذا تصفحنا دفتر أمجاد الوطن سنجده زاخرًا بصفحات المجد والانتصار التي فرضت ذاتها على جبين التاريخ، فيها انتفض أبناء مصر فحطموا قيود الاحتلال، وأعلوا راية مصر فوق كل الرايات، تغلبوا على كافة التحديات وتحققت على أيديهم المعجزات، وخلص وجه الوطن حُرًا عزيزًا مُتطلعًا لمستقبل مشرق، لا صوت يعلو فيه فوق صوت المصريين وهم يهتفون "تحيا مصر".
وإذ تحتفل مصر بالذكرى الحادية والخمسين لحرب أكتوبر المجيدة، الذي يمثل أعظم انتصار لمصر وجيشها الباسل وشعبها العظيم على امتداد العصور والأزمان، فإن "بوابة الأهرام" في إيمان منها بأهمية هذا الانتصار العظيم وضرورة ترسيخه في أجيال الشباب، فإنها توثق لحرب العزة والكرامة من خلال أرشيف صحيفة "الأهرام" في معايشة يومية، ننتقل فيها بين قرارات العبور وتضحيات الجنود، نرصد ما أحدثته الحرب من تغييرات شاملة على خارطة السياسة العالمية، وكيف استطاعت قواتنا المسلحة الباسلة بتحطيم أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر".
صدر عدد الأهرام في يوم السابع من أكتوبر 1973م حاملاً معه الخبر الذي انتظره المصريون طيلة 6 أعوام، إنها لحظة النصر وعبور الهزيمة، لقد كُتب المانشيت الرئيسي للأهرام وكأنه نُسج من عبارات الفخر والعزة والكرامة، كما أرسلها مراسلوها الحربيون على الجبهة، وكانت كالآتي:
* قواتنا عبرت القناة.. واقتحمت خط بارليف
*معارك ليلية عنيفة بالدبابات في سيناء بعد نجاح عملية العبور الضخمة
*القوات السورية على الجبهة الشمالية اخترقت الخطوط الإسرائيلية في عدة مواقع وتواصل تقدمها في الجولان
*معارك جوية ضارية في الجبهتين المصرية والسورية
*أنباء إسرائيل عن القتال قليلة وبرقيات المراسلين تخضع لرقابة صارمة
*اتصالات عاجلة في الأمم المتحدة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن
وتصدرت صورة الرئيس السادات الصفحة الأولى بينما يرأس اجتماع القيادة العامة للقوات المسلحة، ويظهر معه في الصورة الفريق أحمد إسماعيل على القائد العام للقوات المسلحة، والسيد عبد الفتاح عبد الله وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء، والفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المسلحة.
بيانات العبور
ونشرت "الأهرام" كافة البيانات العسكرية الصادرة من القوات المسلحة المصرية طيلة سير المعارك في يوم السادس من أكتوبر، ونقلت التفاصيل الدقيقة لأوضاع الجبهتين المصرية والسورية، ومتابعة الموقف من إسرائيل.
وحرصت "الأهرام" في تغطيتها لأحداث المعركة على نقل صورة دقيقة للقراء دون مبالغة أو تهويل، رغم أن كل المعطيات على الأرض تؤكد إحراز الجيش المصري لنصر ساحق، وفي التفصيل:"نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس إلى سيناء، وتمكنت بعملية اقتحام ناجحة والاستيلاء على الجزء الأكبر من الشاطئ الشرقي للقناة، وسقطت في أيدي قوات العبور المصرية نقط العدو واستحكاماته القوية؛ حيث رفع الجنود البواسل العلم المصري على خط بارليف، وغطت على دوي المدافع وانفجارات القنابل أصواتهم وهم يكبرون لحظة ارتفاع العلم المصري فوق الأراضي المصرية في سيناء".
وواصلت "الأهرام" وصف سير المعارك، حيث لم يستطع الطيران الإسرائيلي على كثافته فرض سيطرته فوق سماء المعركة؛ حيث اشتبكت مقاتلات سلاح الجو المصري مع الطائرات الإسرائيلية وأدت إلى إسقاط 11 طائرة فيما خسرنا 10 طائرات.
وتستمر التغطية في شرح ما حدث، حيث بدأت القوات المصرية عمليات العبور بعد أن ردت في الساعة الواحدة والنصف عدوانًا إسرائيليًا حاول فيه عدد من تشكيلات العدو الجوية مهاجمة قواتنا في منطقتي الزعفرانة والسخنة في خليج السويس، بينما كانت بعض زوارقه الحربية تحاول الاقتراب من الساحل الغربي للخليج.
وواصلت "الأهرام":"لم يكن هذا الهجوم بعيدًا عن التوقعات المصرية التي كانت ترصد كالصقر التحركات الإسرائيلية على مدى الثماني والأربعين ساعة الماضية، فانتقل الرئيس السادات إلى مقر قيادة القوات المسلحة لمتابعة الموقف أولًا بأول.
وعندما صدقت توقعات القيادة، أعطى الرئيس السادات أوامره للقائد العام للقوات المسلحة بأن يُنفذ على الفور، وطبقًا للخطة الموضوعة، عملية ردع شاملة للعدو، وأصدر أوامره بأن توضع أجهزة الدولة جميعها في خدمة المعركة، وبدأت أجهزة الدولة على المستويين الحكومي والشعبي وضع جميع مباني المدارس في حالة استعداد لمواجهة الطوارئ، وأن تكون الأولوية في صرف مواد البناء الأساسية كالحديد والخشب الأسمنت لأغراض الحرب، وتكليف 20 شركة مقاولات للقيام بالأعمال التي تستدعي الظروف الحالية القيام بها لمتطلبات المعركة.
افتتاحية «الأهرام» يوم النصر .. القرار والرجال
في أقصى الجانب الأيمن من الصفحة الأولى جاءت افتتاحية "الأهرام" تحت عنوان "القرار والرجال" مؤكدة فيها أننا لسنا أمما معركة ساعات أو أيام بل امتحان إرادة سيشهد عليه التاريخ، وأن نجاحنا في هذا الاختبار سيكون لعاملين هما: شجاعة القرار بقبول التحدي، وأن الرئيس السادات كان في لحظة من أخطر وأعظم لحظات حياته، ومن حقه أن يشعر أن كل إنسان في هذه الأمة يعرف عمق التجربة ويشعر بمسئولية القرار، والعامل الآخر هو شجاعة الرجال الذين تلقوا القرار ونفذوه حاملين أرواحهم على أكفهم، مضحين بكل غال ونفيس من أجل هذا الوطن، إن هؤلاء الرجال الذين تقدموا بشجاعة لا يحملون علم مصر فحسب، بل يحملون مصيرها ومستقبلها ومستقبل ومصير الأمة العربية بأكملها .. إنهم جنود حق .. هذا مكانهم وهذه مكانتهم.
ردود الأفعال الدولية
وأظهرت الصفحة الأولى من "الأهرام" ردة الفعل الدولية إزاء عملية العبور التي نفذتها القوات المسلحة، والتي مثلت مفاجأة للجميع، وقد مثلت أنباء انفجار القتال في الشرق الأوسط مفاجأة مذهلة للعواصم العالمية، حيث بدا الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون منزعجًا للغاية، وظل على اتصال بوزير خارجيته هنري كيسنجر بينما يتلقى التقارير، طالبًا منه بذل كافة الجهود لإنهاء القتال ووقف إطلاق النار، أما الحكومة البريطانية فقد أطلقت دعواتها للوقف الفوري لإطلاق النار، فيما بدا الوضع مُربكًا وغامضًا أمام الحكومة الفرنسية، وفي موسكو قطعت الإذاعة والتليفزيون برامجهما لإذاعة البيانات المصرية والسورية.
كما تلقى الرئيس السادات رسالة من ليونيد بريجينيف سكرتير الحزب الشيوعي السوفييتي، سلمها سفير موسكو بالقاهرة فلاديمير فينوجرادف.
صورة الموقف من إسرائيل
حرصت "الأهرام" على نقل صورة دقيقة لما كانت عليه الأوضاع في إسرائيل، حيث أشارت بداية إلى دعوة رئيسة الوزراء الإسرائيلية لمجليس الوزراء المُصغر للانعقاد في صباح يوم السادس من أكتوبر الذي يوافق "يوم كيبور" أو عيد الغفران، أقدس الأعياد اليهودية، ما يعني أن شيئًا خطيرًا على وشك الحدوث، وفي نهاية الاجتماع أُعلنت حالة الطوارئ، وتم استدعاء جنود الاحتياط، وأعطت الحكومة وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان السلطات الكاملة لمواجهة الموقف.
وفي الساعة الثانية ودقيقتين بعد الظهر أُطلقت صافرات الإنذار في تل أبيب وجميع أنحاء إسرائيل.
ديان يعترف بخسائر وفقد مواقع
وتحت عنوان "ديان يعترف بخسائر وفقد مواقع" أفادت الأهرام أن وزير الدفاع الإسرائيلي "موشي ديان" علم خبر اقتحام القوات المصرية لاستحكامات خط بارليف، ولم يجد مبررًا يقوله للصحفيين سوى: (إن خط بارليف لم يكن سوى قطعة من الجبن "الجروبير" فيه من الثقوب أكثر مما فيه من الجبن)، واعترف بالخسائر ونجاح القوات المصرية في عبور القناة واستخدام الجسور عليها، وظهر على شاشات التليفزيون ليعلن أن المعركة ستدور في صحراء سيناء في الأيام القادمة واعترف بأن القوات الإسرائيلية قد تكبدت الخسائر وفقدت بعض المواقع المهمة.
وقال الراديو الإسرائيلي إن مصر مهدت لعبور القناة بغارات كثيفة على عدد من المواقع الإسرائيلية، وانطلقت صفارات الإنذار في جميع مدن إسرائيل في الساعة الثانية وخمس دقائق وظل الناس في المخابئ 45 دقيقة.
ردود الأفعال العربية
وأظهرت الصفحة الأولى من الأهرام ردة فعل العالم العربي بعد عملية العبور، حيث سارع الملوك والرؤساء العرب بالاتصال بالرئيس السادات في مقر قيادة القوات المسلحة، مؤكدين وضع إمكانيات دولهم تحت تصرف مصر فري ردها للعدوان ونضالها من أجل تحرير الأرض، ومن بين هؤلاء الزعماء العرب، العقيد الليبي معمر القذافي، والرئيس الجزائري هواري بو مدين، وأمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح، والرئيس اللبناني سليمان فرنجية، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر، والعاهل الأردني الملك حسين بن طلال، والرئيس السوداني جعفر النميري، كما تلقى السادات برقيتين من الرئيس السوري حافظ الأسد، وبرقية من الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز مؤكدا أن المملكة تضع كافة إمكانياتها في خدمة المعركة.
أما العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز فقد أرسل برقية عاجلة إلى وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر محذرا إياه من أن البركان الهاجع في الشرق الأوسط سينفجر ما لم تردع أمريكا إسرائيل، ولن يقتصر تدميره على المنطقة وحدها بل سيتعداها إلى حرب عالمية شاملة، وقد أفردت "الأهرام" باقي تفاصيل البرقية في الصفحة الخامسة.
قرارات الحكومة خلال الحرب
ولا زلنا في الصفحة الأولى من الأهرام، حيث أظهرت التدابير الحكومية خلال فترة الحرب، حيث خصصت الحكومة يومين لبيع اللحوم وتنظيم توزيع السكر، وقرارها بوقف الدراسة بالمدارس الابتدائية والإعدادية على أن يظل التدريس بالمدارس الثانوية حتى إشعار آخر، مع تدريب طلاب المرحلة الثانوية على أعمال الدفاع والتمريض، مع قرار إغلاق المحال العامة والمقاهي في تمام الساعة الحادية عشر مساء، وفي الصفحة الخامسة تم نشر بعض قرارات وزارة التموين مثل تخصيص أيام لبيع وشراء السلع مثل اللحم والدقيق والشاي، مؤكدة توافر جميع السلع في الجمعيات الاستهلاكية، ومن بين القرارات التي أخذتها الحكومة تأجيل الدوري العام لكرة القدم لمدة أسبوعين، ومناشدة الأندية المشاركة في الواجب الوطني.
في الصفحة الثالثة من عدد "الأهرام" الصادر يوم 7 أكتوبر 1973، ظلت التغطية مستمرة حول تفاصيل عملية العبور، وحرصت "الأهرام" على نشر الأوضاع على الجبهتين المصرية والسورية مدعومة بالخرائط، كما نجد مجموعة من العناوين الهامة، منها:
ـ الأسد يوجه رسالة إلى الشعب والمقاتلين
ـ رسالة من عيدي أمين إلى السادات والقذافي
ـ إبلاغ كل السفراء بموقف مصر من العدوان
ـ دورة استثنائية لمجلس الشعب
ـ إيقاط نيكسون من النوم
ـ بيان لوزراء الخارجية العرب في نيويورك
ـ متطوعون من الكويت يتدفقون على سفارة مصر
ـ إلغاء الرحلات الجوية إلى إسرائيل
ـ نيجيريا تقطع علاقاتها مع إسرائيل
وفي أقصى يسار الصفحة الثالثة نُشرت صورة للرئيس السادات بصحبه نائبه السيد حسين الشافعي عند وصولهم لمقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
في الصفحة الخامسة من عدد "الأهرام" الصادر يوم 7 أكتوبر 1973م، نجد كاريكاتيرا لصلاح جاهين يصور أحد الجنود المصريين عابرًا الضفة الشرقي من قناة السويس رافعًا العلم المصري عليها، مُعلقًا :"ايه رأيك بقى في المنظر الطبيعي ده؟!"، وهو لاشك نهاية مبهجة ننهي بها جولتنا داخل هذا العدد التاريخي.. وغدًا نطالع صفحة جديدة من صفحات المجد والانتصار...
الصفحة الأولى من الأهرام يوم 7 أكتوبر 1973
الصفحة الثالثة من الأهرام يوم 7 أكتوبر 1973
الصفحة الخامسة من الأهرام يوم 7 أكتوبر 1973