في يوليو 2007 تعرفت إلى الناقدة السينمائية الهندية أرونا فاسادييف، في نيودلهي، بحضور الناقد العراقي الصديق انتشال التميمي، واليوم يبلغني انتشال من هولندا خبر وفاتها، وبرحيلها نفقد نصيرا للسينما العربية، ضمن مسلسل خسارات، ونزيف بدأ بفقدان الرصيد المصري، الناصري، لدى الهنود.
كانت أرونا فاسادييف رئيسة مهرجان «أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية»، رئيسة لا يشعر الحاضرون بسلطتها «الرئاسية»، أما تأثيرها ونشاطها ففي كل تفاصيل المهرجان وأنشطته، وكذلك راعي المهرجان «نيفل تولي» رئيس مؤسسة أوسيانس للفنون، شاب في نحو الأربعين، ومؤسسة أوسيانس أهلية مستقلة، تعنى بتنظيم المعارض التشكيلية، وبيع اللوحات الفنية. ومن المسئولية الاجتماعية لرأس المال أسس ذلك المهرجان «المستقل»، وأوكل رئاسته إلى أهل الخبرة.
كان نيفل تولي يظهر في حفل الافتتاح، إجراء بروتوكولي خالٍ من الاستعراض، ثم يترك الملك للمالك، يترك المهرجان لرئيسته أرونا التي بدأت المهرجان بالسينما الهندية والآسيوية، وأضاف إليه انتشال التميمي قسما عنوانه (أرابيسك)، من خلاله توثقت علاقة المشاهد والناقد الآسيوي بالسينما العربية، وبداية من الدورة التاسعة (2007) أصبحت السينما العربية طرفا أساسيا في المهرجان، بل إن اسمه تحول إلى «مهرجان أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية».
مرة واحدة رأيتُ أرونا فاسادييف بالزي الوطني الهندي، كأنها إحدى أمهات فيلم أو مسلسل هندي. في الأحوال الطبيعية، في العروض والندوات، ترتدي زيّاً عمليا، لكنها في حفل استقبال التزمت بالزيّ الوطني، الزيّ نفسه الذي ارتدته «شايلا ديكشيت» رئيسة حكومة العاصمة نيودلهي.
في الهند لا أحد يقول: «نيودلهي»، إنما: «ديلي»، «Delhi» وحرف «H» صامت لا يُنطق. هو حفل استقبال وحيد خلا من الخمور، لكن «شايلا ديكشيت» احترمت مشاعر بضعة ضيوف عرب ومسلمين، فجعلت الحفل على ما ظنته طريقة إسلامية.
حضرتُ المهرجان أربع دورات، الأولى أكثر تأثيرا، وكانت «حروب الاستقلال في السينما» عنوانا لإحدى ندوات المهرجان الذي ضمّ قسما عنوانه «أفلام الحرب»، عرضت فيه أفلام: «أطفال الحرب» للفلسطينية مي المصري، و«بلديون أو السكان الأصليون» للجزائري رشيد بوشارب، وأفلام كان العالم العربي موضوعًا لها، منها «ثورة الجزائر» الذي أخرجه عام 1966 الإيطالي جيللو بونتيكفورفو (1919 ـ 2006)، عن الممارسات الوحشية للجيش الفرنسي ضد الجزائريين المطالبين بالاستقلال.
كان انتشال التميمي يبذل جهدا كبيرا، في انتقاء أفلام تعبر عن تيارات سينمائية متنوعة، تؤكد ثراء السينما العربية من جهة، ومن جهة ثانية جدارتها بأن تكون الجناح الآخر لمهرجان ظل آسيويا ثماني دورات.
انتشال حالة إنسانية خاصة جدا، تكفي ابتسامته الصافية، ومقولته الأكثر شهرة التي صارت علامة عليه: «مشتاقون».
يكاد يكون الطرف العربي الأكثر بروزًا وتأثيرًا، في معظم المهرجانات حول العالم. تحفظ ذاكرته الخرافية أدق التفاصيل عن أفلام، وسينمائيين، وأحداث، وبرامج، ومهرجانات وإصدارات.
بفضل الوعي لدى أرونا فاسادييف، وذائقة انتشال التميمي واطلاعه البانورامي على الإنتاج العربي، شاهد الآسيويون أفلامًا لعدد كبير من المخرجين في عموم العالم العربي، مثلا: نوري بوزيد، إلياس بكار، الجيلاني السعدي (تونس)، مرزاق علواش، رشيد بوشارب، عمور حكار (الجزائر)، إسماعيل فروخي، فوزي بن سعيدي، محسن بصري، أحمد المعنوني، أحمد بولان (المغرب)، محمد الدراجي، شوكت أمين كوركي (العراق)، بسام الزوادي (البحرين)، عبد الله المحيسن (السعودية) حاتم علي، عبداللطيف عبدالحميد (سوريا)، جان كلود قدسي، رانية اسطفان، كارلوس شاهين (لبنان)، مي المصري، آن ماري جاسر (فلسطين)، محمد خان، يسري نصر الله، شريف عرفة، مروان حامد، أحمد رشوان، هالة خليل، رامي عبدالجبار، والمقيمان في الولايات المتحدة مي إسكندر وهشام عيسوي. أما يوسف شاهين فحكاية أخرى.
أن أشاهد «باب الحديد» في السينما فهذا حدث. حظي جمهور المهرجان بما فاتنا، بمشاهدة «باب الحديد» على شاشة كبرى تستوعب نظرات قناوي الجائعة إلى فتاة المحطة، وإلى هنومة، نظرات بعمق الاشتهاء والجرح والحرمان، والحاجة إلى التحقق، وهو ما لا تفلح في إظهاره شاشة التليفزيون المستأنسة.
في عام 1958 ثار الجمهور «العاطفي»، وغضب على شاهين وعاقبه سنوات، ثم أعاد اكتشاف الفيلم مع ظهور التليفزيون، وكأنه يرد الاعتبار ويقدم الاعتذار، عن الخطأ في حق الفنان الذي يجب أن يسبق الجمهور والنقاد بخطوات.
عاش الفيلم ولا يزال قادرًا على تجاوز اختبار الزمن واللغة والجغرافيا، استنادًا إلى سحر السينما، لو تحقق لها شرط واحد هو الصدق الفني.
في الأيام التالية، كان سينمائيون لا أعرف جنسياتهم، إذا قلت لهم إنني مصري، يردون بإعجاب:
ـ «Oh, Cairo station»
لم أرَ أرونا فاسادييف في مهرجان القاهرة السينمائي، أرجّح أن المهرجان لم يدعُها، حتى حين حلّت السينما الهندية ضيفًا عام 2009. كانت الأيدي ممدودة إلينا، لكن يدنا مغلولة. وبوفاة أرونا فاسادييف نفقد داعمًا مهمّا للحضور العربي في آسيا.