إذا تأملت سلوك إسرائيل إزاء ما تتعرض له المنطقة من مشكلات بسببها، سوف تكتشف ميلها الدائم وإدمانها الحلول المؤقتة التي تزيد هذه المشكلات حدة وتفاقمًا، وليس إنهاءها دفعة واحدة، وخير دليل على ذلك لجوؤها لاغتيال حسن نصر الله، زعيم "حزب الله" اللبناني، ومعه ثلة من كبار قادته، خلال هجوم مباغت ووحشي على الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، وراحت تتفاخر وتزهو بإزاحة أحد خصومها الألداء من فوق رقعة شطرنج المنطقة، مستخدمة صواريخ يبلغ وزن الواحد منها طنًا.
تحسب تل أبيب وقادة حكومتها المتطرفون أنه بغياب نصر الله، الذي قاد "حزب الله" لنحو 32 عامًا متصلة، سوف يستتب الأمر لها وتصفو الأجواء، ولن يردعها رادع عن القتل، وتهديد السلم والأمن الإقليميين وقتما يعن لها ذلك، وأنها وجهت لطمة مؤلمة للغاية لإيران، التي تتعهد الحزب بالرعاية والتمويل والتوجيه، وأمامها وقت -ليس بالقصير- قبل أن تفيق من صدمة رحيل رجلها، الذي أزعج وشاكس إسرائيل وأرهقها بهجمات تسببت في إجلاء غالبية سكان الشمال من منازلهم، وبقيتهم يمضون جل وقتهم داخل المخابئ المحصنة.
نظريًا، يبدو أنها محقة في اعتقادها السالف، ونجحت في تغيير موازين القوى بالشرق الأوسط، لكن واقع الحال يؤكد خطأها على طول الخط، وأن ما فعلته لا يعدو كونه حلًا مؤقتًا سوف يتلاشى أثره سريعًا، وتبقى المشكلة قائمة كما هي، بل إنها تفاقمت وزادت تعقيدًا والتهابًا، فهل جال بخاطر الإسرائيليين التساؤل الآتي: ماذا بعد اغتيال حسن نصر الله؟
دون أدنى شك، فإن اغتياله سيغير المعادلة السياسية في بلاده، لبنان، التي تحكم في مفاصلها إبان السنوات الماضية، وسيجعل طهران تعيد حسابات كثيرة، لأنه كان شريكًا وحليفًا إستراتيجيًا لها ولأجندتها المستقبلية بالإقليم الذي سوف يشهد تحولات لافتة في مسارات الأوضاع المتأزمة والمحتقنة فيه في غضون الأسابيع المقبلة، وكذلك "قواعد الاشتباك" المتعارف عليها في الصراع المعلن الناشب بين إسرائيل وإيران وحلفائها في لبنان والعراق واليمن وسوريا.
وواقعيًا فإن بنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، المزهو بانتصاره الوهمي، لم يتخلص من خطر "حزب الله"، مثلما يأمل ويتمنى، لكنه دشن لتوه فصلًا جديدًا أشد وأعنف من الصراع، فالحزب سوف يجمع شتاته عاجلًا أو آجلًا باختيار خليفة لـ"نصر الله" ورفاقه الذين قضوا نحبهم في الغارات الإسرائيلية، وسيجهز نفسه لسلسلة طويلة من الأعمال الانتقامية، وإن كان قد خسر فعلًا مجموعة كبيرة من قادته البارزين، فإنه سيدفع بقيادات من صفوفه الخلفية الذين سيكون شغلهم الشاغل رد الصاع صاعين لتل أبيب، بخلاف أنه من غير المعلوم حتى الآن مدى تأثر بقية الهياكل التنظيمية والقيادية للحزب وترسانته من الأسلحة والذخيرة والعتاد والمقاتلين المدربين -وطبقًا لبعض التقديرات يبلغ عددهم 100 ألف مقاتل- ويتحركون وفقًا لعقيدة قتالية يصعب أن تفتر أو تلين، بعد فقدانهم قائدهم.
أيضًا فإن كل العيون ستتجه صوب ما سيقرره المرشد الأعلى في إيران، المتوقع أن يفاضل بين سيناريوهين لا ثالث لهما، على الأقل في الوقت الراهن، الأول التهدئة، والثاني التصعيد، مع مراعاة أن السيناريو الثاني هو ما تتوق إليه إسرائيل، الساعية إلى إشعال حرب شاملة تجر إليها الولايات المتحدة الداعمة لها، قبيل إجراء انتخاباتها الرئاسية خلال أسابيع قليلة، ويدرك الإيرانيون هذه الحقيقة، وتجنبوا -بعد اغتيال قاسم سليماني وغيره من قادة الحرس الثوري الإيراني- توسيع نطاق ردها والاكتفاء بما يحفظ ماء الوجه، لتفويت الفرصة على نيتانياهو وغلاة اليمين الإسرائيلي المتطرف.
على كل، فإن حلول إسرائيل المؤقتة لن تحقق لها الأمن والاستقرار، والعكس هو الصحيح، فهي تتهرب بواسطتها مما يتوجب عليها فعله والالتزام به، مثل احتلالها الأراضي الفلسطينية والتنكيل بالفلسطينيين، مستغلة سلاح التجويع والتهجير القسري، واحترام سيادة دول الجوار، والتعاطي الإيجابي مع الجهود الدولية والإقليمية الساعية لإحلال الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والتوقف عن وضع العراقيل مقابلها، وأن تنصاع وترضخ للشرعية الدولية، وألا تتعمد توسيع رقعة الصراع، وتلك التزامات ثقيلة عليها، وستجعلها عرضة للمحاسبة والعقاب، وهو ما لا تريده وترفض قبوله، والقادم لها سيكون أصعب.