شعور غريب جدًا عايشته في مشهد لم ولن أنساه، حدث بين أمي وابن أخيها رحمهما الله، الذي لا أقول إنها كانت تحبه، ولكن بالأحرى تعتبره ابنها الكبير، وتتحدث عنه بشكل جعلني أتصور -وأنا صغير ما زلت- أنه أخونا الأكبر بالفعل، وهو من جانبه كان يعتبرها ويتعامل معها وكأنها أمه، لدرجة أن أبيه وأمه كانوا ينادونه "يا بن فلانة" باسمها وكأنه ابنها.
عندما مرضت أمي دعاها لقضاء بضعة أيام في بيته، وفي يومها الثاني ذهبت لأطمئن عليها، ثم جلسنا لتناول الطعام، وبمنتهى العفوية صدر عن ابنه الصغير تصرف طفولي غير مقصود، لكنه بالطبع لا يمكن أن يمر مرور الكرام بالنسبة للجيل الذي تنتمي إليه أمي، ممن لا يتركون صغيرة ولا كبيرة تمر دون التنبيه على ما هو صحيح وما هو خطأ وعيب.
إحقاقًا للحق، لم تقل السيدة شيئًا للطفل غير كلمة واحدة، "عيب"، لم تزد عليها حرفًا، وفي لحظة تحول وجه ابن الخال إلى اللون الأحمر، واشتد خضار عينيه بشكل مرعب للناظرين، فوجدته وقد ألقى بعينيه في طبقه لا يكاد يرفعهما، وقد عقد حاجبيه حتى كادا يلتقيان، ثم وجه حديثه الساخط شديد اللهجة إلى زوجته بالانتباه إلى ابنها، كان شكله ونبرة صوته كفيلان بأن "تقف اللقمة في زورنا" لنستأذن بالانصراف فورًا، بدون أي تعليق منه أو من زوجته.
سرت صامتًا بجوار أمي لا أنطق بكلمة، كانت مريضة وكنت أشعر بحرجها مني، فهذا هو ابن أخيها الذي كنت أحسبه ابنها وأنا صغير، لم يتحمل مجرد كلمة قالتها لابنه، كلمة نصح وتوجيه لا أكثر ولا أقل.
أحسستها تتساءل في نفسها ودموعها تكاد تجري: ماذا فعلت حتى يغضب هكذا؟ ابنه يعتبر في مقام حفيدي وأنا لم أقل شيئًا، لقد أخطأ الصبي بالفعل وهو وأمه صامتان، ولابد أن يوجهه أحد إلى الصواب، ما بال هذا الجيل؟ ماذا حدث لعقولهم.
التفتت نحوي ففهمت ما يدور في بالها، وقلت لها على الفور، "حسنًا لا مشكلة، ربما أنه متعب من العمل، وهناك شيء يصيبه بالتوتر، لكنك لم تقلي شيئًا يبرر ثورته"، فنزلت كلماتي عليها بردًا وسلامًا، وعدنا سالمين.
بعد يومين جاء ابنها الكبير، أقصد ابن أخيها، وعندما دخل عليها ووقعت عيناه على وجهها أدرك فورًا أنها على غير طبيعتها، نظر حوله وبحث حتى وجد عصا فالتقطها وناولها إياها، سألته ما هذا؟ فقال لها هذه عصا امسكيها واضربيني حتى ترضي، أعلم أنني أخطأت ولا عذر لي في إغضابك، وما جئت اليوم إلا لأصالحك، هيا اضربي حتى ترضي، فلن أبرح مكاني حتى تقولي أنك سامحتيني، كان ذلك يحدث أمام عيني وأنا أشاهد وأتأمل وأتعلم، وعندما سألته أمه، أقصد أمي، عفوًا أعني أمنا نحن الاثنين، السؤال الذي يحيرني هو ما الذي أغضبك، أنا لم أقل شيئًا، ولم أنهر الطفل؟ قال لها وأنا أقسم لكِ أنني لا أعلم ماذا أصابني في تلك اللحظة، لطالما انتقدتِ تصرفاتي ووجهتيني إلى الصواب، لم أغضب في يوم وكنت أشكرك على نقدك لي، ألا تتذكرين؟ لكن عندما سمعت كلمة عيب التي قلتها لابني، شعرت أن سوطًا قد انطلق يجلدني بلا رحمة ودون توقف، شعرت أنني فاشل في تربية ابني، وأن زوجتي لا تقوم بواجبها، أحسست أن العالم كله يعلم بمصيبتي ويتحدث عنها، هذا ما شعرت به ولا تسأليني عن السبب لأنني لا أعلم.
ومرت السنين وجاء الحفيد، وحيث أنني ممن يحرصون على التعلم من الماضي والاستفادة إلى أقصى درجة من الخبرات السابقة، فقد بنيت خطة لتربية أبنائي أساسها المواقف المحفورة في ذاكرتي منذ سنوات، فقررت أنه لا داعي إطلاقًا لغضبي إن قام أحدهم بانتقاد أبنائي أمامي طالما أنه يفعل ذلك لمصلحتهم.
لكننى أشهد وأقر وأعترف بين يديك عزيزي القارئ أن الأمر ليس بتلك السهولة، فقد اكتشفت أن أقسى شيء على قلب الأب والأم هو لحظة توجيه ملاحظة ولو صغيرة لأبنائهم على مسمع ومرأى منهم، شعور عجيب وغريب أليس المتحدث هو أبيك وأمك؟ من علموك ووجهوك وضربوك وأنت صغير، فما بالك تغضب إن فعلوها مع ابنك؟ وتجيبني حماتي رحمها الله: يابني المثل يقول: "أدعي على ابني وأكره إللي يقول آمين".
أنا انتقد أبنائي وألعن أسلافهم كما أشاء، لكنني في نفس اللحظة التي ألعنهم فيها وربما أدعو عليهم، لا أتحمل أحدًا قد تسول له نفسه أن يدعو عليهم مثلي أو ينتقدهم، ولا حتى مجرد أن يقول كلمة "آمين" تعقيبًا على دعواتي ولعناتي التي أصبها عليهم صبًا.
لماذا ؟ لا أدري ولا تسألوني عن السبب! فقط أخبروني إن كنتم تعلمون؟!