لن تخطئها عيناك، وأنت تتجول بين أرفف وممرات «السوبر ماركت»، بالعبارة السحرية الشهيرة «أورجانيك«(Organic) ، الموجودة على عبوات بعض السلع الغذائية، قد تكون هى هدفك الذى تسعى إليه منذ دخولك المكان، لعلمك المسبق بمحتواها وتأثيرها المباشر على الصحة والبيئة، وقد تسترعى العبارة انتباهك فتتوقف للحظة لتطالع البيانات الواردة على الملصق، وربما تخصص بعضا من وقتك للبحث عنها، وعن جدواها، وما الاختلاف بينها وبين بقية السلع الغذائية؟ لكن من المؤكد أنك ستتوقف كثيرا، عندما تعلم أن حجم الاستثمارات العالمية فى هذا القطاع يتجاوز نصف تريليون دولار قريبا، وأن مصر ودولا عربية أخرى، تتطلع لأن تصبح مركزًا إقليميا رئيسيا لـ«أورجانيك»، بسبب زيادة حجم الصادرات وتحقيق التنمية.
موضوعات مقترحة
يشير محمود عبد الرازق 46 سنة، بفخر إلى محصول طازج من الطماطم والبطاطس تم إنتاجه، عن طريق الزراعة العضوية على مزرعة صغيرة بناحية مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، 55 كم شمال شرق القاهرة، قائلا: هذا هو مستقبل الزراعة، لافتا النظر إلى أنه لا يستخدم أى مبيدات أو مركبات كيميائية، ويعتمد فى زراعته على الطرق التقليدية التى كان يتبعها الأجداد منذ آلاف السنيين، ماء خال من التلوث وأسمدة عضوية تتوفر من روث الحيوانات التى يقوم بتربيتها، لافتا النظر إلى أن هناك شركات تتعاقد معه عاما تلو الآخر، على تصدير منتجاته لأوروبا وأمريكا مثل بقية المزارع المنتشرة فى المنطقة، منوها أن هناك دعما كبيرا من الحكومة المصرية، ممثلة فى وزارة الزراعة لتشجيع الفلاحين على الزراعات العضوية، فى ظل نمو حجم الطلب المحلى والتصدير على السلع التى تحمل علامة “أورجانيك”، وفى ظل ما تتمتع به تلك السلع من مزايا صحية، وتنامى المخاوف العالمية بشأن الآثار الصحية لمخلفات المبيدات الكيميائية، ومخاطر المحاصيل المعدلة وراثيا .
تربة وبذور
الدكتور محمود على الروينى، أستاذ الإرشاد الزراعى بجامعة الأزهر، يعرف الزراعة العضوية “الأورجانيك”، بأنها العودة لفكرة الزراعة البدائية التى عرفها الإنسان (تربة وبذور)، قبل هجوم المبيدات والهرمونات والهندسة الوراثية والأسمدة المعدنية، بالاعتماد على السماد العضوى، وتابع قائلا : يعتمد نظام الزراعة العضوية بشكل أساسى على بقايا المحاصيل، والأسمدة الطبيعية الخضراء، والحشائش الضارة، والسماد من روث الحيوانات، وتتطلب الزراعة العضوية من ثلاثة إلى خمسة أعوام، لإنتاج ما يصل إلى نحو 95 %، من المحاصيل التقليدية، وأن الزراعة العضوية، قبلة الثراء الذى يبحث عنه الفلاح فى السنوات المقبلة، لاسيما أن حجم تجارتها يصل إلى نصف تريليون دولار بحلول 2027.
منافسة عالمية
تعتبر الزراعة العضوية، إحدى وسائل الوقاية المهمة لتقليل تلوث البيئة، فضلا عن منافعها الاقتصادية والاجتماعية والصحية، ووفقا للبيانات الصادرة عن الاتحاد الدولى لحركات الزراعة العضوية(IFAOM)، فهناك قرابة 3 ملايين منتج زراعى عضوى حول العالم، وتقدر المساحة المخصصة للزراعة العضوية بنحو 71 مليون هكتار، وتحتل أستراليا الصدارة وتنافسها الهند، وتنتشر مبيعات تجارة التجزئة للأغذية والأطعمة العضوية فى 187 دولة حول العالم، وتقدر السوق العالمية للأغذية العضوية والمشروبات، بنحو 198.1 مليار دولار، بنهاية 2023، ومن المرجح أن ترتفع إلى 500 مليار دولار، بحلول عام 2027، وتستحوذ الولايات المتحدة على نسبة 40 %، من حجم السوق العالمى للأغذية العضوية والمشروبات، بقيمة 60 مليار دولار سنويا وتنافسها الصين .
ووفقا لنتائج الحصر العالمى الجديد عن الزراعة العضوية، بواسطة معهد أبحاث الزراعة العضوية فى سويسرا ،(FIBL) والاتحاد الدولى لحركات الزراعة العضوية ،(IFAOM) فإن الزراعة العضوية تتطور تطورا سريعا فى منطقة الشرق الأوسط، وتتم مزاولتها فى أكثر من 12 بلدا عربيا من خلال زراعة ما يقارب (11.875.63 هكتارا)، بواسطة 4779 منتجا، تعد مصر وتونس والأردن والسعودية، والإمارات وسوريا والمغرب والجزائر، فى صدارة دول المنطقة المهتمة بالاستثمار فى الزراعة وتصنيع المنتجات العضوية.
مصر.. جهود كبيرة
خلال السنوات العشر الماضية، شهدت مصر - وفقا لتوجيهات القيادة السياسية - جهودا مكثفة لتعزيز وتطوير قطاع الزراعة، بهدف زيادة الإنتاجية وتحقيق الاكتفاء الذاتى، فى بعض المنتجات الزراعية المحورية، واتجهت الدولة إلى استصلاح مساحات شاسعة من الأراضى، تقدر بأكثر من 3.5 مليون فدان، وتشمل مشروع توشكى الخير بمساحة 1.1 مليون فدان، مشروع الدلتا الجديدة بمساحة 2.2 مليون فدان، مشروع تنمية شمال ووسط سيناء، بمساحة 456 ألف فدان، إعادة تأهيل مشروع تنمية الريف المصرى بمساحة 1.5 مليون فدان، بالإضافة إلى المشروعات الأخرى فى جنوب الصعيد، والوادى الجديد بمساحة 650 ألف فدان، بالتزامن مع تدشين 100 ألف صوبة للإنتاج الزراعى، وتطوير وتحديث شبكة الرى الزراعى، وتوسيع استخدام التقنيات الحديثة فى الرى لزيادة كفاءة استهلاك المياه، مع تعزيز استخدام التقنيات الزراعية الحديثة، والممارسات الزراعية المستدامة للحفاظ على الموارد الطبيعية، وتقليل التأثير البيئى السلبى للزراعة، فضلا عن دعم وتشجيع الزراعة العضوية وتزيد مساحتها حاليا على 300 ألف فدان، وهناك جهود كبيرة من الحكومة ضمن رؤية 2030، لمضاعفة تلك المساحة وزيادة حجم الصادرات، حيث يرتفع حجم الطلب على منتجات "الأورجانيك"، فى الأسواق الأوروبية وأمريكا على المحاصيل المصرية مثل الطماطم والبطاطس والبصل والخضراوات، وكذلك النباتات العطرية والأعشاب الطبية، ووفقا للبيانات الصادرة عن وزارة الزراعة، تتركز غالبية مساحات الزراعة العضوية فى الفيوم، وبنى سويف والمنيا وبلبيس بمحافظة الشرقية، وهناك مناطق واعدة فى سيوة وسيناء .
ولم تتوقف جهود الحكومة المصرية عند الزراعة العضوية فحسب، إنما امتدت لتشمل اهتماما لتعزيز قيمة الإنتاج الزراعى، وتحقيق المزيد من القيمة المضافة، بتطوير الصناعات الزراعية المتكاملة من خلال إنشاء وتطوير المناطق الصناعية، بالقرب من المشروعات الزراعية الكبرى، وتحويل المنتجات الزراعية الأولية إلى منتجات نهائية مصنعة ومصدرة، وكذلك تعزيز القطاعات الصناعية المرتبطة بالزراعة، مثل تجهيز وتعبئة المحاصيل الزراعية، وصناعة الأغذية المصنعة، وصناعة الأعلاف الحيوانية.
الأمن الغذائى
يرى الدكتور بهاء بعرور، أستاذ الإرشاد الزراعى بجامعة الأزهر، أن توسيع الزراعات العضوية، سوف يلعب دورا كبيرا فى التعجيل بمعدلات النمو الاقتصادى، الذى يحدث عبر اتباع الأساليب العضوية، والعمل على تنوع المحاصيل، وتشجيع الصادرات وزيادة الدخل، وأضاف: اعتماد الإنتاج الزراعى والغذائى العضوى، سيسهم فى سد الفجوة الغذائية وتحقيق الأمن الغذائى، التى طالما نالت اهتماما متزايدا فى العقود الأخيرة، وبرزت بوضوح أهميتها فى مصر والدول العربية لما لها من تأثيرات مباشرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية .
ويوضح "أستاذ الإرشاد الزراعى"، أن العمل على تشجيع المزارعين على زيادة الرقعة الزراعية فى الوطن العربى، سيسهم فى زيادة فى دخول المزارعين والمنتجين، فضلا عن قدرتها على زيادة فى قيمة الصادرات ذلك لدخولها إلى الأسواق العالمية، منوها أن معدل نمو سوق المنتجات العضوية يقدر بنحو 25 % خلال العقد الأخير، حيث تمثل المنتجات العضوية نحو 2 %، من إجمالى المبيعات الغذائية، وعلى الرغم من أن تكلفة تسويق وتوزيع المنتجات الغذائية العضوية، لا تزال مرتفعة نظرا لمحدودية كمية الإنتاج - على حد قوله - فإن الزيادة فى نسبة أسعار المنتجات العضوية بالمقارنة مع المنتجات التقليدية قد تصل 20 % تقريبا.
العناصر الثقيلة
من جهته شدد الدكتور محمد أنور، عضو غرفة صناعة الغذاء فى اتحاد الصناعات، على أهمية مراقبة هذا النظام من الزراعة، ووضعه تحت نظام توجيهى وتفتيش متفق عليه، تحكمه قواعد وأسس وضعت لتوضيح كيف يتم الإنتاج العضوى، من أجل أن يفى بمتطلبات المستهلك من الغذاء الصحى الآمن الخالى من متبقيات العناصر الثقيلة والمبيدات، أو ميكروبات ضارة على صحة الإنسان، خصوصا أن هناك اتجاها عالميا كبيرا نحو الغذاء والصناعات الغذائية العضوية .
وأشار الدكتور محمد أنور، إلى أهمية التوجه نحو حماية هذا النوع من الزراعة، وتوفير مزيد من الدعم الحكومى للزراعة العضوية من أجل التوسع النسبى فى المساحة المنزرعة، مع مزيد من التوعية الإعلامية بأهمية التحول إلى الزراعة العضوية، إن لم يكن بهدف الاستهلاك المحلى يكون بهدف التصدير والمنافسة فى السوق العالمى لتجارة المنتجات العضوية ذات العائد الاقتصادى المرتفع.
الإمارات والأردن
فى نهاية عام 2023، بلغ إجمالى المزارع العضوية فى دولة الإمارات 74 مزرعة عضوية، منها 47 مزرعة، فى إمارة أبوظبى، و16 مزرعة فى إمارة الشارقة، و4 مزارع فى إمارة دبى، و3 مزارع فى إمارة أم القيوين، و4 مزارع فى رأس الخيمة، والفجيرة. ووفقا للبيانات الصادرة عن وزارة التغير المناخى والبيئة، وتحظى الزراعة العضوية باهتمام كبير من قبل الحكومة الإماراتية، التى تعمل على دعم المزارعين للتوسع فى الإنتاج ضمن إستراتيجية الدولة لتحقيق الأمن الغذائى، وشهدت السنوات الماضية، تطوير قطاع الإنتاج الغذائى المحلى القائم على التكنولوجيا، وتعزيز مساهمته فى تضييق الفجوة الغذائية، بالتزامن مع زيادة إنتاج المزارع المحلية، خصوصاً المزارع الحديثة المستدامة.
كما تحظى الزراعات العضوية، باهتمام كبير فى المملكة الأردنية الهاشمية، وفى الصدارة زراعة الزيتون، خلال استخدام الأساليب الحديثة فى جميع مراحل الإنتاج، وهناك ما يقارب من 20 مليون شجرة زيتون فى أنحاء الأردن تنتج نحو 30 ألف طن زيت، توفر فرص عمل لنحو 1.5 مليون مواطن، وقد حصل عدد من المزارع فى الأردن خلال الفترة الماضية على شهادة الأيزو 2022، لمطابقة إنتاجها للمواصفات العالمية.
السعودية.. سوق كبير
تقدر قيمة سوق الأغذية العضوية فى المملكة العربية السعودية، بنحو 2 مليار ريال، وبلغ عدد المزارعين العضويين المسجلين فى المملكة نحو 312 مزارعاً، وبلغت المساحات المزروعة عضوياً نحو 26.632 هكتار، تنتج أكثر من 98.558 طن من السلع الزراعية المختلفة، وجاءت فى المرتبة الأولى الزراعة العضوية، لمحاصيل الفاكهة (عدا التمور)، لتشكل 11536 هكتاراً، أى ما نسبته 60.3 %، تليها الزراعة العضوية لنخيل التمر 20.8 %، ويشرف “المركز الوطنى للزراعة العضوية التابع لوزارة البيئة، والمياه والزراعة على عدد من المشاريع من المشروعات التطويرية للزراعة العضوية فى منطقة القصيم، من بينها رمز الاستجابة السريع ،”RQ” للمنتجات العضوية ومدخلات الإنتاج العضوى، ومشاريع تربية وإكثار الأعداء الحيوية وإنتاج النحل الطنان، بالإضافة إلى إطلاق خدمات الاستعلام عن منتجات ومدخلات الإنتاج العضوى عبر التطبيق الموحد “منظومة”.
شمال إفريقيا.. دخل كبير
تمثل عائدات الزراعة العضوية مصدر دخل كبيرا لاقتصادات بلدان المغرب العربى، لا سيما تونس والمغرب والجزائر، وتتفاوت حجم المساحات المزروعة بهذه الطريقة فى هذه البلدان، وفى تجاربها ومنتجاتها، لكنها تشترك جميعها فى رؤيتها نحو أهمية التحول إلى الزراعة العضوية كعامل يسهم فى الحفاظ على البيئة، وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وشهدت تونس فى السنوات الأخيرة تطورا كبيرا واهتماما حكوميا بالغا انعكس إيجابا فى مضاعفة مساحة الأراضى المزروعة لأكثر من 320 ألف هكتار، تحمل شهادة مطابقة، وفق المعايير العالمية، كذلك ارتفعت أعداد العاملين فى هذا القطاع لأكثر من 8 آلاف شخص، وباتت صادرات السلع العضوية تشكل أكثر من 15 % من إجمالى الصادرات الغذائية التونسية، وتخطط الحكومة لمضاعفة هذا الرقم فى السنوات المقبلة.