احتاج المصريون إلى أكثر من خمسة عقود ليستبدل بعضُهم الضغائن والآراء السلبية تجاه عبدالناصر وثورة يوليو، فقد كانت ملكة الانتقام المجاني من عبدالناصر، حتى من أولئك الذين استفادوا من نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، انتشرت في السبعينيات، لأسباب مختلفة، من النظام الجديد الذي خلفه، ومن رجال مال وأعمال، أحاطوا به، لمسح وتدمير الأسس التي وضعها عبدالناصر، بدلا من البناء عليها، لهدم نظام سابق من دون القدرة على بناء نظام جديد.
وربما حيا البعض الرجل على استحياء عندما برهن أحد أهم مشروعات مصر في عهده، وهو السد العالي، على قدراته في توفير مظلة حماية من العبث الإثيوبي، وتحديها الزائف لمصر، على خلفية بناء سد النهضة. ولم تكن النقاشات المبرمجة التي يثيرها ذباب الحدائق والمنتديات الذي سبق الذباب الإليكتروني، في سنوات السبعينيات، سوى الانتقاص من السد، ومن قيمته وأهميته، من حيث ترويجهم أنه لم ينتج كهرباء كفاية، أو الذي حرم الأرض من الطمي القادم مع تدفق مياه النيل.
أما إسرائيل والغرب فإن عبدالناصر قدم أفضل القراءات تجاه هذا الغرب المنكشف لنا الآن في حرب الإبادة في غزة وفي حرب لبنان، من دون مخاوف غربية من تحرك عربي يزيد عن الإدانة والشجب.
والاحتجاج بهزيمة 67 المؤلمة كان دائمًا في صدر الخطاب. ولا أظن أن مؤيد لعبدالناصر يدافع عنها، لكن ما عرفناه ونتلقاه حتى الآن، يبين دور الغرب في كل هزيمة عربية، حتى دوره المشبوه في حرماننا من نصر كاسح في أكتوبر 73 كان في إيدينا، لولا تدخل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
حتى الهزيمة استفدنا منها في التخطيط لحرب 73، والآن في عدم التورط في حرب إقليمية تبدو علاماتها في الأفق، كما تورطنا من دون استعداد كاف في نكبة العام 48 وحرب العام 67.
لم تكن الرأسمالية المصرية توحشت إلى الحد الذي لم نعد فيه قادرين على متابعة ومجاراة أسعار منتجاتها العقارية والدوائية والغذائية، ولكن لجأ عبدالناصر إلى عمليات تأميم تتطلبها الأحوال المصرية في تلك الأيام، وأجل أصحاب المنشآت التي جرى تأميمها، الإفصاح عن قلق الأغنياء لديهم، إلى حين وفاة عبدالناصر، ثم انطلقوا. ويكاد أبناء هؤلاء والذين تعلموا مجانًا قرابة عشرين عامًا في المدارس والجامعات، هم الفصيل الأول في الهجوم على عبدالناصر. وبعودة من هاجر في السبعينيات لدول الخليج، لدرجة انزعاج هذه الدول من الهجوم على عبدالناصر، ازداد الهجوم شراسة، وأظنه من الخوف والقلق من تكرار أو اقتباس أي قرار من تلك التجربة.
والمثير للدهشة أن الذين اشتكوا من مجانية التعليم الذي أصر عليها نظام عبدالناصر، هم من هاجموه بعد ذلك في ظل موجة الحرب الظالمة ضده.
والتعليم هو أحد الركائز الأساسية للدولة المصرية الحديثة، منذ مجيء محمد علي إلى مصر. وأي استبعاد لشرائح معينة من التعليم الراقي المتجدد وحتى التعليم العادي، بسبب كلفته العالية، يضر بحاضر ومستقبل مصر. إن للدولة المصرية مؤسسات راسخة حفظتها طوال المائة عام الماضية من الفوضى الخلاقة التي أرادها الغرب، ومازال لمصر وللمنطقة العربية.
وفي تصوري أن هذه المؤسسات بسبب حضورها وتطورها ونظمها الداخلية، وبسبب عمقها وانتمائها وانفتاحها على كل طبقات المجتمع المصري، أدت وستؤدي أدوارها بكفاءة؛ مثل مؤسسة الأزهر، ومؤسسة الجيش والأمن، ومؤسسة البنوك، ومؤسسة الخارجية، وكان معهم مؤسسة التعليم حتى وقت قريب.
أما الثقافة والنخب، فقد استمرت مصر في زمن عبدالناصر في إنتاج ثقافتها والأسماء المهمة كهدف رئيسي، له البعد الوطني والعربي والإنساني، ولم يتوقف أبدًا عطاء القادمين من العصر الملكي، مثل العقاد والحكيم وطه حسين ومحفوظ، بل ازدادوا إنتاجًا.
وعلى سبيل المثال فإن نجيب محفوظ وحتى العام 1956 كان قد أصدر ثماني روايات فقط؛ منها ثلاث روايات تاريخية لا يكترث لها كثيرون، حتى من محبي أدب محفوظ. ولست في سبيل رصد أعمال رواد الكتابة والمسرح والفن في الفترة الناصرية الآن، مثل يوسف إدريس والفريد فرج وإحسان عبدالقدوس والأبنودي وحجازي ثم جيل الستينيات. كانت الفترة مزدانة بالمبدعين من منحهم بنفسه الأوسمة والنياشين، كما سجن بعضهم في قضايا رأي، لكن أحدًا ممن سجنوا في عهده، حقد عليه أو هاجمه حتى بعد وفاته.
لكن لا يمكن الوقوف مع سجن الكتاب والمفكرين بسبب آرائهم، ويجب شجب هذا السلوك السلطوي طوال الوقت.
ولكن في ذكرى وفاة عبدالناصر يمكن أن نجد دائمًا أفكارًا وقياسات على الماضي والحاضر والمستقبل في القضايا والمجالات كافة مستخلصة من رؤى الرجل ومبادئه الرئيسية وانحيازاته بعين الإنصاف.