إن معلم المرحلة الابتدائية -الحنون- كان وما زال من بين أكثر المعلمين حظًا؛ فهو الذي تمتع بمكانة كبيرة في قلب تلاميذه نظرًا لتوقيت تعامله المبكر مع الطفل الجالس أمامه متعلقًا به، حافظًا لأدق تفاصيله وأولها ملامح وجهه التي ستبقى محفورة في ذاكرته، إنه المعني بتجسيد تلك الرسالة التي تبعث بها المدرسة لهذا الصغير القادم إليها، هذا الطفل الذي غادر منزله في وقت مبكر جدًا لكي يذهب إليها، يتحمل داخلها تلك المسئولية الكبيرة التي سوف تلقى على عاتقه بشكل مفاجئ لأول مرة.
جاء الصغير إلى المدرسة مرتبكًا متخوفًا من تجربة جديدة ستمر به وسيمر بها؛ سيبقى بداخلها مقيدًا بقوانين تحكم حركاته وتترجم سكناته لأول مرة في حياته؛ سيقضي ساعات من الغربة المؤقتة بين جدران حجرة دراسة ستشهد يومًا له أو عليه، ستقر بدوره وصحيح علمه، أو ستدون أمامه عدد مرات إخفاقه وفشله؛ ومهما تتسع مساحة الفناء من حوله سيشعر أحيانًا ببعض الضيق والوحدة، يترددان عليه بين الحين والآخر طارقين بابه الضعيف ببعض العنف والقسوة.
لعل هذا الجيل الحالي من شبابنا سيتعجب إن وقعت عيناه على حديثي هذا وأنا أذكر زمنًا كانت المدرسة فيه لها تلك المكانة العالية والمؤثرة؛ لدرجة تصل بنا عند الالتحاق بها إلى الإحساس بالمزيد من الخوف والرهبة فقد كان جيلنا يخجل ويهاب، يحبس الأنفاس والكلمات في جوفه، ينتقي العبارات ويحفظ للمعلم هيبته ويوفيه حقه من رصيده من احترام وتبجيل؛ نظرًا لقناعة تم غرسها فيه من جانب منزل أصيل وأسرة عززت مفهوم هذا المعنى، فجاءت محبتنا له من منطلق تقديرنا لعمله ورسالته المقدسة.
وها هي صورة أخرى قد عثرت عليها، صورة تعكس مدى رضا جيلنا عن طبيعة تعلمه التي استلزمت منه ابتعادًا لساعات ليست بالقليلة عن كل ما اعتاد عليه من قبل، حيث التعلم والاستغراق في رحلته الطويلة منذ البداية، كان العلم يصاغ لنا بشكل محبب لا يصاحبه تذمر منا أو ضجر؛ صورة عهدناها في مجتمع متزن لم يجنح نحو كل هذا الترف، لا يؤيد بأي شكل من الأشكال ذلك التدليل الفج الزائد على الحد.
من معلمينا من كان حانيًا عطوفًا رقيقًا راقيًا باقيًا إلى الآن في قلوبنا وعقولنا، ومنهم من كان قاسيًا فظًا بعض الشيء، فترك بقلوبنا ندبة لا يمكن تخطيها أو تجاهلها، منهم من ساهم في بناء صروح نجاحنا، ومنهم من تسبب في هدمنا وإيذاء قلوبنا، جرح مشاعرنا وأثقل نفوسنا، وإن كان هذا في كثير من الأحيان يحدث بغير قصد، فبقي هناك حاضرًا بكل أسف؛ بقي مستقرًا في هذا الجانب المظلم من ذاكرتنا.
كثيرًا ما استدعتني هذه الفكرة للكتابة عن تلك الفترة البعيدة، عن تلك المرحلة المهمة من عمر الطفل، كم دعتني للمرور بين طرقات وأروقة قديمة، ليس من أجل التأمل فيها فحسب، بل من أجل البحث عن تفاصيل أخرى دقيقة للغاية تصف المواقف، وتشرح مدى عمق الرسالة وتأثيرها في تنشئة جيل يتفتح كالزهور متطلعًا فيه إلى من يفهمه، من يحبه، من يعلمه كما يحب هو، مطبقًا لنظريات حديثة تناسبه هو وتناسب عصره.
التربية ليست بالمهمة العادية أو السهلة، سواء في البيت أو داخل المدرسة؛ إنها مهمة عظيمة ورسالة مقدسة تتقاسمها الأسرة والمدرسة؛ إن التعليم الجيد كأحد بنود التنمية المستدامة أصبح أمانة كبيرة مكونها الأول نابع من مخافة الله والسعي لإرضائه، محتواها يعكس محبة الوطن والعمل على خدمة أبنائه، بترسيخ قيم مجتمعه ومبادئ الانتماء إليه.
لابد أن يعلن التغيير الإيجابي الآن عن وجوده، يثبت حضوره، مطبقًا لإستراتيجيات تعلم تحفظ لهؤلاء الصغار حقهم في التعلم المقترن بالبهجة المحفزة على المزيد من الفهم والاستيعاب والرغبة الدائمة في التعلم، يشارك هؤلاء الصغار في رحلتهم، يصطحبهم منذ الخطوات الأولى من توجههم في رحلتهم من المنزل نحو المدرسة.