أصبحت الغارات الإسرائيلية اليومية المكثفة على جنوب لبنان والضاحية الجنوبية بالعاصمة بيروت واغتيال قيادات حزب الله تباعًا بندًا رئيسًا في نشرات أخبارنا غير السعيدة، بعدما توارت قليلًا أنباء الفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وقضى خلالها على الأخضر واليابس فيها، لدرجة أنها لم تعد صالحة للحياة الآدمية بوضعها الراهن.
فإسرائيل المتغطرسة والمنفلتة مصرة على إيصال رسالة مفادها نحن أقوياء، ولنا اليد العليا والطولى، وقادرون على الوصول وقتما نشاء لمَن نرغب في عقر دارهم، والقضاء عليهم قضاء مبرمًا، لكونهم يشكلون تهديدًا لتل أبيب وأمنها، ووجود الدولة الإسرائيلية ككل، حسبما تزعم عبر أبواق دعايتها، وبقية رسالتها تتضمن إحساسًا جارفًا بالغرور الشديد والزهو بأن أحدًا لا يقدر على إيقافها عند حدها، ومنعها من التعدي السافر على سيادة الدول المجاورة، سواء كانت لبنان أو سوريا.
على كل، فإن لبنان تئن، وشعبها يتألم وينزف بغزارة، جراء الهجمات الإسرائيلية المتتالية، ويدفع فاتورة الصراع المعلن بين إسرائيل وإيران، الذي تدور رحاه على الأراضي اللبنانية، وصوت أنينه قد يرتفع خلال الأيام القادمة، إذا أقدمت حكومة بنيامين نيتانياهو المتطرفة على الدفع بقواتها البرية إلى داخل لبنان لتأمين الجبهة الشمالية وإعادة المستوطنين إلى بيوتهم التي هجروها، بسبب إطلاق مقاتلي حزب الله الصواريخ والقذائف على شمال إسرائيل، وإن فعلت ذلك فربما نشهد غزة أخرى بالساحة اللبنانية.
وحتى تكون الصورة واضحة وجلية، فإن ما يكابده لبنان من مشاق وعنت واستباحة لسيادته يجري بمباركة أمريكية لا تخطئها عين المتابع الفطن، لأن واشنطن لها مصلحة عظمى وتتوافق رؤيتها تمامًا مع الحكومة الإسرائيلية، ولهذا فإنها توفر لها كل الدعم الممكن لإكمال مهمتها التدميرية، ولا تكترث بالعواقب الكارثية التابعة للدائرة الجهنمية التي أدخلت فيها إسرائيل الإقليم بجموحها وإصرارها على الاحتكام لمبدأ القوة العسكرية فقط لمواجهة الأزمات الطارئة، والتمادي فيه بصورة بالغة الخطورة، فما هي مصلحة أمريكا فيما يدور من مآسٍ في لبنان؟
إن ساسة واشنطن لا يخفون رغبتهم في تحجيم إيران وعناصر قوتها التي يعتبرونها تمثل خطرًا على نفوذهم ووجودهم السياسي والعسكري في الشرق الأوسط والإقليم، وحزب الله من بين أبرز، إن لم يكن أهم، أذرع طهران وأدواتها، وتعتقد أنه بهدم البنية التحتية له، واغتيال قياداته البارزة، ومخازن أسلحته وذخائره سوف تشل حركته وقدراته على توجيه ضربات مؤثرة لها ولحلفائها، ويزيد على ذلك الأخذ بالثأر بأثر رجعي، حيث إن بعض قادة حزب الله الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا كانوا ضالعين في الهجوم على وحدات مشاة البحرية الأمريكية "المارينز" ببيروت مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وسقط فيها عشرات القتلى بخلاف هجمات أخرى طالت سفاراتها.
وينطبق على حركة حماس الفلسطينية الاعتقاد الأمريكي نفسه، حيث ينظر إليها من قبل صناع القرار في واشنطن على أنها أداة طيعة في يد ملالي إيران، وينفذون أجندتها حرفيًا، وأن ما حدث في السابع من أكتوبر الماضي كان بتخطيط وإيعاز من الحكومة الإيرانية، ومن ثم فإن توجيه ضربة ساحقة ماحقة لها سيعني هزيمة طهران بواحدة من أعنف جولات الصراع بين الجانبين، وإسرائيل ليست سوى المنفذ على الأرض لما يتخذه البيت الأبيض من قرارات وتوجهات، وهذا ليس بجديد ولا مستحدث.
ويغيب عن أذهان حكام أمريكا وإسرائيل أن موجات التصعيد لها سقف، إن تجاوزته فالعواقب ستكون مرعبة على الجميع، وأن ارتداداته ستأتي بما لا تحمد عقباه، وأن السلاح لم يحسم معركة قط، وأنه يمهد السبيل للجلوس إلى طاولة التفاوض التي ليس لها بديل آخر قادر على تحقيق الأهداف المرجوة، فضلا عن أن الأجيال القادمة في حماس وحزب الله ستتربى على أن هناك حقًا لابد من تحصيله من واشنطن وتل أبيب، ولن تهدأ النفوس، أو تنسى ما تعرض له الآباء والأمهات من قتل وتدمير وترويع، وسوف يتحينون الفرصة المواتية لرد الصاع صاعين، وستتكرر المشاهد نفسها ثانية بشكل أضخم وأبشع، ولن تكون أمريكا ومعها إسرائيل في مأمن من مسلسل الانتقام التالي لتعمد تل أبيب، بموافقة أمريكية صريحة، إدخال المنطقة دائرة الحرب الجهنمية.