يقول الكاتب اللبناني الراحل إلياس خوري: "في حياتنا اليومية العادية علينا أن نبحث عن المعنى، أما في حياة الألم، فعلينا أن نصنع المعنى".
ترى هل يمكن للمرء أن يقدم "أجوبة ذات معنى" بشأن العجز الدولي أمام الحرب الهمجية الإسرائيلية ضد لبنان، واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي، والآن الإبادة الممنهجة، والدعوات لتوسيع مساحة دولة الاحتلال بدلا من التحرك والضغط لإلزامها بالتخلي عن الأراضي العربية المحتلة.
والقصة للأسف معروفة بتفاصيلها الحزينة، إلا أن الفصل الحالي بات يضغط على القلوب والضمائر لدى بقية في الساحة الدولية لا زالت تحتفظ بـ"إنسانيتها"، وتريد أن تحدث فرقًا في هذا العالم الذي يزداد "وحشية"، وتتهاوى فيه منظومة القيم، والأخطر "النظام القائم على القواعد".
وأحسب أن أحدًا بات يكترث أو يتعامل بجدية مع تصريحات السياسيين أو المتحدثين باسم قوى دولية كانت تعامل بجدية من قبل، وحتى وقت قريب في بقية العالم.
وتبدو التصريحات الأخيرة، والتي باتت تتكرر بصورة آلية، وبذات العبارات التي فقدت معناها، والغاية من إصدارها، والمطلوب ممن يسمعها من شعوب هذه الدول، وشعوب منطقة الشرق الأوسط. وذلك لسبب بسيط، وهو أن البيانات تتجمل وتتعاطف، ولكن أفعال هؤلاء المتعاطفين ذاتهم هي التورط في العدوان، وتوفير الدعم المادي والغطاء السياسي والإعلامي وأحدث أنواع الأسلحة والذخائر، والأساطيل، وإعلان الحماية للعدوان الإسرائيلي.
ومن هنا يرتبك الرجل العادي عندما يعلن جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي أن الولايات المتحدة تفعل كل ما في وسعها لمحاولة منع تحول القتال بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب شاملة.
والأغلب أن ذلك يقول بما يكفي لإدانة واشنطن؛ لأنها لا تعترض على القتال وسقوط الأبرياء، ولكن ما يعنيها هو عدم تفجر حرب شاملة، وهذا كله بات محل شك، فلم تعد الإدارة الأمريكية طرفًا يمكن الوثوق به علي الإطلاق.
ومن ناحية أخرى لم يعد هناك من يصدق الحكومات البريطانية، لأنهم في الغرب نفسه يقولون إن لندن هي "ذيل الكلب الأمريكي" المطيع، ووفقًا لذلك عندما يعلن وزير الخارجية البريطاني "نريد وقفًا فوريًا لإطلاق النار في لبنان لبدء العمل على المسار السياسي".. فلا أحد يأخذ بريطانيا على محمل الجد.
وفي الوقت نفسه فقد الاتحاد الأوروبي قدرًا كبيرًا من أرضيته الأخلاقية، والتعويل على حكمة القارة العجوز، ومحاولتها أن تقدم للعالم "حلولًا تفاوضية مؤلمة"، وهي مؤلمة لأنها ليست عادلة، ولكنها كانت تبدو أخف وطأة من حلول الكاوبوي الأمريكي بحلوله المدمرة؛ سواء من "الفوضى غير الخلاقة"، والحروب التي لا تنتهي، لقد تبخر الرهان على أوروبا لفترة طويلة قادمة، ولم تعد بياناتها تثير الاهتمام الجاد، فقد مر تأكيدها "أننا نشعر بالقلق للغاية من خطورة التصعيد في لبنان، وندعو إلى وقف لإطلاق النار".. مرور الكرام... إذن إلى أين يقودنا ذلك، سواء كنا هنا أو في الغرب او بقية العالم. وأحسب أننا يمكننا أن نرصد عدة أمور مؤلمة، ولكنها تفرض نفسها على الواقع الراهن، وسيكون لها تداعيات لسنوات بل لعقود قادمة، وأبرز المشاهدات:
لقد فقد غالبية الجنوب العالمي ثقته، بل وقدرته على تحمل الغطرسة الأمريكية، والعجز الأوروبي.
أنها ليست "نهاية التاريخ"، ولا أوهام سيطرة إمبراطورية وحيدة، ولا هيمنة "الليبرالية الجديدة" على العالم، بل كانت لحظة صعود سحرية حملت معها عوامل انحدارها.
أن نبوءات "انهيار الإمبراطورية"، وموت الغرب لم تعد كتابات بالتمني أو من معسكر الحاسدين والكارهين، بل من داخل الغرب ذاته، والشواهد أكثر من أن تحصى، ويكفي الموت الديموجرافي والثقافة العدمية.
العالم والحضارة تتجه نحو الشرق، ولم السؤال هل تفعلها الصين والهند وآسيا، بل متى يتم إعلان أمريكا "إمبراطورية غربت عنها الشمس"، وأوروبا "متحف كبير".
- الأرضية الأخلاقية العليا للغرب تتساقط بانتظام، وعلى نحو يدعو للرثاء، فالحياد العلمي وحرية التعبير والمعتقد الديني، وتعايش الثقافات، والاحتفاء بالاختلاف يتبخر، والصورة الآن أزمة شرعية، وكلام عن حرب أهلية في أمريكا، وشعوبية وعنصرية بغيضة تجتاح أوروبا، وحكومات عاجزة باتت تخشى من "ثورات ملونة" في شوارعها، والسترات الصفراء في فرنسا ليست بعيدة.
- سقوط هيمنة الإعلام الغربي، وانكشافه في الداخل والخارج، والآن محاولات محمومة للسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي حتى لا تصل الحقائق الأخرى للرأي العام.
- سقوط مدوٍ للنظام القائم على القواعد، الذي تم إقراره بعد معاناة وحروب عالمية وإقليمية باهظة الثمن، والمحزن أن الغرب من يقوضه وبقية العالم من يحاول الحفاظ عليه وإصلاحه.
- لا مفر من نظام عالمي متعدد أكثر عدالة وإنسانية، والأغلب أن المخاض طويل وصعب.
- لم يعد صعبًا على الغرب أن يجد الإجابة عن السؤال المحزن: لماذا يكرهوننا؟!
وهنا كل ما على الغرب أن يفعله هو أن ينظر في المرآة ليرى نفسه، وأن ينظر أبعد قليلًا ليرى معاناة الفلسطينيين، وبقية شعوب المنطقة التي تتوق إلى السلام، وتعشق الحياة، وتعايشت لقرون مع الآخرين، إلا أنها تعاني بشدة ممن يكرهون الحياة ولا يرون سوى الموت والحروب التي لا نهاية لها "خلاصًا لهذا العالم"، إلا إن بقية العالم قررت إن تعطي ظهرها لهذه الثقافة العدمية، ومهما كان حجم المعاناة فأغلب الظن أن الحياة تنتصر في النهاية.