تحولات في موازين القوى الاقتصادية

24-9-2024 | 15:20

مع تزايد انغلاق الاقتصادات المتقدمة على نفسها، تحولت موازين القوى الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، وأصبحت الأسواق الناشئة تتولى مهمة قيادة الاقتصاد العالمي.

وبعد أن نمت من حيث الحجم والمكانة الاقتصادية العالمية، بفضل التكامل الأكبر والإصلاحات، فإن الأسواق الناشئة لا تشكل مجرد عنصر ثابت على الساحة الاقتصادية العالمية فحسب، بل من المتوقع أيضًا أن تحمل لواء النهج المتعدد الأطراف وقيادة النمو العالمي. 

فالأسواق الناشئة والاقتصادات النامية (كمجموعة) من المتوقع أن تحقق نموًا بنحو 4.3% في 2024، وهو تقريبًا ضعف النمو المرجح في الاقتصادات المتقدمة الذي يصل إلى 1.7% خلال العام ذاته.

 ولم تكتف اقتصادات الأسواق الناشئة بالنمو اللافت؛ بل كانت مرنة بشكل عام، في مواجهة تقلبات أسواق العملات وسياسات التشديد النقدي لكبح جماح التضخم.
وعلى مدى العقدين الماضيين، أصبحت هذه الاقتصادات أكثر اندماجًا مع الأسواق العالمية، وتولد "تداعيات" اقتصادية أكبر على بقية العالم.

البزوغ والنمو
ولكن في ضوء اتساع بصمتها العالمية، قد يبدو من غير المعتاد أن يظل مفهوم "الأسواق الناشئة" قيد الاستخدام حتى الآن، فحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، قسمت مؤسسات التمويل الدولية العالم إلى مجموعتين: مجموعة صغيرة من "الدول الصناعية" الغنية برأس المال، وأغلبية من "الدول النامية" الفقيرة الغنية بالعمالة، والتي لا تزال في طور النمو. 

مع دخول ثمانينيات القرن الـ19 ظهر إلى الوجود مصطلح "الأسواق الناشئة" لتحفيز الاهتمام بصندوق أسهم جديد يضم 10 اقتصادات نامية ناشئة.

ولقد ظلت هذه التسمية ــ التي تستحضر الديناميكية والإمكانات والوعود ــ راسخة، كما أفرزت فئة أصول مالية مميزة، ومؤشرات عديدة مثل مؤشر أسهم الأسواق الناشئة MSCI، الذي تم إطلاقه عام 1988، ومؤشر سندات الأسواق الناشئة التابع لبنك جي بي مورجان، الذي أنشئ بعده بثلاثة أعوام. وعملت هذه المؤشرات على ترسيخ فكرة أن المستثمرين من أبناء الطبقة المتوسطة الجدد في الاقتصاد العالمي هم الذين يتنقلون بين "آلام" النمو والصدمات الخارجية ويواجهون أزمات العملة، والعدوى المالية، والتوقفات المفاجئة، وتسارع النمو. 

الخروج من العباءة 
ولكن العديد من الأسواق الناشئة أصبحت تتجاوز كلًا من المصطلح والصورة النمطية، نظرًا لنفوذها العالمي ومصداقيتها السياسية، وتطورها الاقتصادي المذهل. 

في أعقاب الاضطرابات التي شهدتها سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، كان انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 إيذانًا ببدء فترة من النمو الملحوظ للأسواق الناشئة، حتى اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008.

وأدى تطور الصين إلى تسريع وتيرة العولمة وإطلاق العنان لدورة السلع الأساسية الفائقة، الأمر الذي أفضى إلى رفع النشاط العالمي، وإثراء الأسواق الناشئة المُصدرة للسلع الأساسية.

انقلبت الأمور بعد عام 2010 بالنسبة للأسواق الناشئة، بصفة خاصة مُصدري السلع الأساسية. ففي الصين وحدها، تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنحو 4.6 نقطة مئوية بين عامي 2010 و2019، ومن المتوقع أن يتباطأ إلى ما يزيد قليلًا على 3% بحلول عام 2029، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي.
 
أضف إلى هذا التداعيات العالمية الناجمة عن الجائحة، وصدمات التضخم، وانكماش رأس المال العالمي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية.

تزايد النفوذ 
بيد أن الأسواق الناشئة لم تعد غير راغبة للتطورات العالمية، كما كانت في السابق، بل على العكس من ذلك، تسلط أبحاث صندوق النقد الدولي الأخيرة الضوء على أنه كيف أصبحت الأسواق الناشئة الآن أكثر نفوذًا وتأثيرًا على المستويين المحلي والعالمي.

ولم تتزايد التأثيرات غير المباشرة للصدمات الداخلية في هذه الاقتصادات على النمو العالمي على مدى العقدين الماضيين فحسب، بل أصبح تأثيرها الآن مماثلًا لتلك التي تشهدها الاقتصادات المتقدمة، كما يقول المثل "إذا عطست الاقتصادات الناشئة أصيب الاقتصاد العالمي بالزكام".

ونتيجة لهذا، أصبحت الأسواق الناشئة في مقعد القيادة إلى حد كبير عندما يتعلق الأمر بالنمو العالمي؛ سواء في فترات الذروة أو الانخفاض. وأسهمت الأسواق الناشئة الأعضاء في مجموعة العشرين بنحو ثلثي النمو العالمي خلال العام الماضي. 

كما أن تلاشي آفاق النمو في هذه الاقتصادات نفسها كان سببًا في أكثر من نصف التراجع الذي بلغ نحو نقطتين مئويتين في آفاق النمو في الأمد المتوسط ​​منذ الأزمة المالية العالمية. 

ويمكن إرجاع مرونتها الأخيرة أيضًا إلى التحسن العام في الأساسيات، فعلى سبيل المثال، تحسن أرصدة الحساب الجاري، وانخفاض الديون المقومة بالدولار، وارتفاع الاحتياطيات وأطر السياسة النقدية والمالية الأفضل. 

ومع تسليط الضوء على التحول المناخي على الفجوة بين الطلب والعرض للمعادن الحيوية؛ مثل النحاس والنيكل، فإن تفتت التجارة وتنويع ما بعد الوباء يعني أن أهمية الأسواق الناشئة في سلاسل التوريد العالمية تزداد نموًا وأهمية.

قفزة إلى التقدم
وعلى الرغم من نفوذها العالمي المتنامي والزيادات في الدخول والثروات التي ضمنتها لشعوبها، فإن الانتقال إلى الاقتصادات المتقدمة ظل بعيد المنال بالنسبة لجميع الأسواق الناشئة باستثناء حفنة قليلة منها. 

ولكن حتى لو ظلت الأسواق الناشئة بعيدة عن معايير الاقتصادات المتقدمة، فإن تقسيم الاقتصادات إلى هاتين الفئتين يبدو غير ذي أهمية في السنوات الأخيرة؛ ذلك أن العمق المتزايد لاندماج الأسواق الناشئة في الاقتصاد العالمي وحجمها الهائل، سواء من حيث الناتج المحلي الإجمالي أو عدد السكان، وتنوعها يعني أنها أصبحت الآن بنفس أهمية أغلب الاقتصادات المتقدمة ونظمها. 

والواقع أن عودة العديد من الاقتصادات المتقدمة إلى سياسات الانغلاق على ذاتها يعزز هذه الامتيازات، فالأسواق الناشئة لم تعد مجرد متفرجة، بل إنها أصبح لديها مصلحة راسخة في استقرار الاقتصاد العالمي ونجاح النهج متعدد الأطراف. 

وفي نهاية المطاف، كانت العولمة والتعاون والتدفق المستمر للسلع والخدمات ورأس المال والمعرفة -وستظل كذلك- عوامل أساسية في نموها وإنتاجيتها وإبداعها ونجاحها في الحد من الفقر.

الحقوق الاقتصادية العالمية 
بطبيعة الحال، بدأت بعض أكبر الأسواق الناشئة بالفعل في ممارسة حقوقها الاقتصادية العالمية كجزء من مجموعة العشرين، وهي المجموعة الوحيدة من البلدان الرأسمالية غير المهتمة بتقسيم العالم إلى مجموعتين، "ناشئة" و"متقدمة".

مع تولي الأسواق الناشئة سبعًا من الرئاسات العشر الأخيرة - حيث من المقرر أن تتولى جنوب إفريقيا الشعلة في عام 2025 - فقد تمكنت من الترويج للقضايا التي تعتبرها أولويات محلية وعالمية بالغة الأهمية: على سبيل المثال، الشمولية والاستثمار (تركيا 2015)، الابتكار ونشر التكنولوجيا (الصين 2016)، مستقبل العمل والبنية الأساسية والغذاء المستدام (الأرجنتين 2018)، تمكين المرأة والشباب (المملكة العربية السعودية 2020)، الإنتاجية والمرونة (إندونيسيا 2022)، التنمية الخضراء والبنية الأساسية العامة الرقمية (الهند 2023) وعدم المساواة، وتعبئة الإيرادات، والحوكمة العالمية (البرازيل 2024).

إن الأسواق الناشئة أصبحت الآن في قلب عملية صنع السياسات والنمو العالميين. وفي ظل عدم اليقين المتزايد بشأن البيئة الاقتصادية العالمية، غير المواتية، والسياسات الحمائية والانتقائية المحتدمة، تستطيع المنظمات الدولية أن تعتمد بشكل أكبر على هؤلاء القادة الجدد، الذين لديهم مصلحة مؤكدة في إبقاء شعلة التعددية مشتعلة، للتغلب على التحديات العالمية الهائلة التي نواجهها.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة