أثارت واقعتا صلاح الدين التيجاني مؤسس الطريقة "الصلاحية التيجانية الجديدة" الخاصة باتهام فتاة تدعى خديجة له بالتحرش، وكذلك ظهور منتسبي أتباع أحد الطرق الصوفية، وتدعى الطريقة الكركرية وهي إحدى الطرق الصوفية الموجودة في المغرب وهم يرتدون ملابس غريبة، عبارة عن جلباب من القماش الملون الموصول ببعضه بكل الألوان، وعلى رأسهم عمامة خضراء يؤدون حركات اهتزازية غريبة..
هذه الظواهر أثارت الجدل وجعلتنا جميعا نجدد البحث حول ماهية التصوف الحقيقي والذي يتعبد به لله وبين التصوف المزعوم الكاذب وبين الصوفيين الحقيقيين وبين مدعي التصوف.
وإنه لمن المؤسف أن نرى تجدد ظهور هذه الظاهرة على السطح الديني خلال الفترة الزمنية الماضية وهذه ليست الأولى من نوعها وليست بالقليلة من مدعي التصوف وأدعياء أنهم أولياء الله الصالحين الذين يستقطبون المريدين من حولهم خاصة من المشاهير وأهل الفن ورجال الأعمال مستغلين بذلك ضعف الوازع الديني الكامن عند البعض من هؤلاء من جهة وبين كثير من أفراد المجتمع المصري الذي بطبعه وبفطرته يحب التصوف والمتصوفين من جهة أخرى.
وإذا كنا نحارب التطرف الفكري بكافة أشكاله واصفين المتطرفين دينيا بالإرهابيين أعداء الدين، فمن وجهة نظري لابد وأن نقر ونعترف أن هناك أشخاصا يدعون التصوف ولا يعلمون عنه إلا اسمه ورسمه، ولا يعلمون ماهيته وحقيقته، وأن منهم قد انحرف انحرافا كبيرا، بل لا أشطط إذا قلت إنهم قد انحرفوا كل الانحراف عن الصوفية الحقيقية وصار سلوكهم أقرب إلى الشعوذة والدجل والكذب على الله ورسوله، وتستروا خلف هذا التدين المغلوط واختفوا تحت هذه الطرق الواهية والعباءات الزائفة والطقوس البعيدة كل البعد عن الإسلام.
إن التصوف الحقيقي يا سادة هو البحث عن صفاء الروح والخشوع والخضوع لله جل وعلا.. هو الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة..
التصوف الحقيقي هو طريقُ علم وعمل.. هو مرتبة عالية جليلة القدر عظيمة النفع، تتمثل بإصلاح القلب مع الآداب الشرعية ظاهرًا وباطنًا، التصوف ليس بناءً وجدانيا أو نظرة فلسفية إنسانية؛ إنما هو منهج قائم على الكتاب والسنة، وذلك باتباع شرع الله تعالى والاقتداء بالنبيّ ﷺ في الأخلاق والأحوال والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأفعال وتسليم الأمور كلها لله من غير إهمال في واجب ولا مقاربة محظور أو اتصاف بحمد النفس وعبادة الذات وإقناع الآخرين بذلك..
التصوف الحقيقي هو صرف لبعض الأوقات في خلوة منفردة لعبادة الله تعالى وحده والأنس به، والتجرد من أعباء النفس ومطامع الدنيا وزحام الحياة وزخم الحوائج…
التصوف الحقيقي هو السلوك القويم ومنهج الأنبياء وسلوك الصالحين المستقيم، هو ليس انحرافا عن نهج الصالحين، ولا دربا من خبل الغالين، ولا تهاونا ولا تفريطا في عبادة أحكم الحاكمين..
لقد اختار الله لأمة الإسلام منهجها وبيّن لها طريقها؛ وهو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه؛ فهي أمة الوسطية ودينها وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وإن دين الإسلام والمتمسكين به بعلم بريئون من تلك الانحرافات.
..التصوف الحقيقي هو تهيئة النفس لزرع مكارم الأخلاق، وحب الخير للغير، وتدريبها ومراودتها دائما على فعل الخيرات وترك المساوئ والمنكرات..
التصوف الحقيقي هو ترك حيلة التدبير والاعتراف بالعجز والتقصير والاتكال على اللطيف الخبير.. هو عدم الارتكان لزخرف الدنيا وزينتها، وعدم الولوغ في شهواتها وملذاتها.. هو إشباع النفس بالباقيات الصالحات لا بما لذ وطاب من المطعومات والمشروبات.. هو الزهد في الأموال والأراضين والأطيان والعقارات.. وإن كانت مملوكة والثقة بذهابها أو الذهاب عنها...
التصوف أدب ووقار وتواضع واعتبار وليس تسلطا على الأغيار، وليس ادعاء لمثالية أو لولاية كاملة لا تخطئ..
التصوف ليس إحاطة بمريدين يلتفون حول شيخ تشتهي نفسه جمعهم حوله ليكون أمام المشاهد أنه وحده هو القمر المنير الذي يلتمس الكواكب حوله البركة والسرور والسعادة والحبور والرضا والنور..
هو مرتبة عالية جليلة القدر عظيمة النفع تتمثل بإصلاح القلب مع الآداب الشرعية ظاهرًا وباطنًا، فهو مبني على الكتاب والسنة، وذلك باتباع شرع الله تعالى والاقتداء بالنبيّ ﷺ في الأخلاق والأحوال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأفعال، وتسليم الأمور كلها لله من غير إهمال في واجب ولا مقاربة محظور، واتصاف بالمحامد وترك للأوصاف الذميمة.
(يقول سهل بن عبدالله التستري -وهو من أعلام التصوف في القرن الثالث- أصول مذهبنا ثلاثة: اقتداء بالنبي بالأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص لله في جميع الأحوال).
الصوفية الحقيقية ليست مذهبا جديدا أو فكرا مبنيا على خزعبلات أو أكاذيب أو أكل لأموال الناس بالباطل أو حتى على مجرد أوراد وأذكار يقوم بها الشخص لم يأت بها من قبله أحد!! بل هي أن يخلص المسلم بنفسه من أي شوائب وأي عوالق قد تؤثر على استقامة قلبه وجسده..
إن قوة الإيمان والعقيدة إذا تمكنت في قلب مسلم، فإنه سيكون أصفى الناس وأزهد الناس وأقرب الناس لرب الناس، وأقرب إلى منهاج سيد الناس رسولنا الكريم "صلى الله عليه وسلم" وسينعكس هذا على جسده وعلى قلبه، فقلب المتصوف الحق غير مملوء بالحقد والحسد والبغضاء والشحناء للغير؛ لأنه قد اعتاد على القيام والصيام والصلاة والعبادة فأي نفس هذه؟ وماذا ستكون النتيجة لو انتشرت هذه الصفات في المجتمع المسلم؟ ستكون النتيجة بُعدًا عن إيذاء الغير بغير حق، واتصافا بمحاسن الأخلاق ونقاء في القلوب.
قال الجنيد البغدادي رحمة الله عليه: (التصوف هو الخروج عن كل خُلُق دنيء، والدخول في كل خُلُق سَني).
التصوف هو أن يتَخَلَّق المسلم بِخُلُق نبيه؛ ليكون لين العريكة حسن الخلق عظيم الحلم وفير العفو صادق الحديث سخي الكف رقيق القلب دائم البِشرِ كثير الاحتمال والإغضاءِ صحيح التواضع راعيًا حق الصحبة دائم الفكرة كثير الذكر طويل السكوت صبورًا على المكاره محتسبا متكلًا على الله منتصرًا بالله محبًا للفقراء والضعفاء غضوبًا لله إذا انتهكت محارمه..
الصوفية الحقيقية فيها صلاح للمجتمعات فمذهب الصوفية الصادقة بيّنه إمامٌ من أئمة الصوفية الإمام أحمد الرفاعي رحمه الله؛ حيث قال في وعظه لطلابه ذات يوم (ألا فليخبر الحاضر الغائب، من ابتدع في الطريق وأحدث في الدين وقال بالوَحْدة، وكذب متعاليًا على الخلق، وشطح متكلفًا، وتفكه فيما نقل من القول من الكلمات المجهولة لدينا، وطاب كاذبًا، وخلا بامرأة أجنبية بلا حجة شرعية، وطمح نظره لأعراض المسلمين، وأموالهم، وفرق بين الأولياء، وبغض مسلمًا بلا وجهٍ شرعيٍ، وأعان ظالمًا، وخذل مظلومًا، وكذب صادقًا، وصدق كاذبًا، وعمل بأعمال السفهاء، وقال بأقوالهم، فليس منا، وإنا برئيون منه في الدنيا والآخرة)..
لقد وصف ابن خلدون في القرن الرابع عشر الصوفية بأنها التفاني في عبادة الله والزهد في الثروة والمظاهر وغيرها من أوجه السعادة واعتزال الآخرين لعبادة الله.
إننا نريد حقيقة أن نستعيد الصوفية الحقيقية التي بمثابة منهج حياة اتخذه كثير من الأفراد والعلماء على مر الزمان الأمر الذي أدى أن يقدم علماء الصوفية للدين والأمة الإسلامية من العلوم الشرعية الذي تثري كل بيت مسلم، وطالب علم ولا يستطيع أن ينكر فضل هؤلاء العلماء الصوفيين إلا جاحد.
نحن بحاجة ملحة للوقوف علي الصورة الحقيقية للصوفية من كافة النواحي، خاصة أن التصوف ليس موجودًا بالإسلام فقط، ولكن بكل الديانات السماوية؛ لأنه متعلق بالروح الوجدانية للشخص المتعلق بالله.
والصوفية الحقيقية مرت بمراحل وتطورات مختلفة ومن أعلامها الكثير والكثير منهم الإمام أحمد بن حنبل، والإمام مالك، والإمام أبوحنيفة، والإمام حافظ بن حجر، والإمام البخاري، والإمام مسلم، والإمام النووي، ومحيي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، والحلاج وابن الفارض، وابن الجوزي، ورابعة العدوية، وأبوالحسن الشاذلي، وأبوالعباس المرسي، والسيد البدوي.. وغيرهم ممن كانوا يسلكون طريق التصوف الحقيقي؛ لدرجة أن هناك أعلاما كانوا على رأس المتصوفة من أئمة الأزهر وشيوخه الأجلاء، وعلى رأسهم الإمام الراحل فضيلة الدكتور عبدالحليم محمود، الذي ترك سلسلة من كتب التصوف والثقافة الصوفية، والشيخ الراحل فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وانتهاء بإمام الأزهر الشريف الحالي الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف المترعرع في بيت الصوفية، ولكنها الحقيقية التي تبحث عن الوسطية والاعتدال وما تمثله من قيم روحية وأخلاقية دون شطحات أو خزعبلات أو بحث عن مآرب شخصية.
وفي ختام هذا المقال ينبغي أن ننبه إلى أمر ذي بال ألا وهو ادعاء بعض مدعي الصوفية بالحصول على تراخيص من الأوقاف والإفتاء والأزهر؛ مما يبيح لهم التصدي لأمور الفتوى علاوة على قيام بعضهم ببناء مساجد أو زوايا خاصة بهم أمر ينذر بخطورة كبيرة، ويجعلنا نطالب المجلس الأعلى للطرق الصوفية بالتنسيق مع كافة المؤسسات الدينية ووضع حد لذلك، خاصة أن مصر بها 77 طريقة منها 67 فقط طريقة مسجلة بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية، وتضم ما يقرب من 6 ملايين مريد ومحب، بما يجعلها أحد أهم التجمعات الدينية في مصر والعالم العربي والإسلامي، وذلك لاستعادة روح الصوفية الحقيقية الخالصة لوجه الله تعالى.