وضعنا مقتل عائشة نور إزجى إيجى، الناشطة الأمريكية من أصول تركية، والبالغة من العمر 26 عاما، بالرصاص فى الرأس خلال احتجاج مناهض للاستيطان بالقرب من مدينة نابلس، فى الضفة الغربية المحتلة، أمام أحدث الوقائع بالغة الخصوصية والتعقيد؛ فالولايات المتحدة الأمريكية هى الحليف الأقرب لإسرائيل، والأخيرة هى أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، فى هيئة مساعدات عسكرية أو تمويل للدفاع الصاروخى. والمفارقة أن الجرافة التى دهست الناشطة الأمريكية "راشيل كورى"عام 2003 أمريكية الصنع، أثناء محاولتها الدفاع عن منازل الفلسطينيين. "لن يقول لكم أحد أبدا لا، وفى ذات الوقت لن يفعل أحد شيئا أبدا" هكذا لخص أحد كبار المسئولين الأمريكيين الموقف الرسمى حيال نشطاء السلام ضحايا الوحشية الإسرائيلية، مخاطبا آل كورى الذين أصبحوا، من كثرة ترددهم على مبنى الكونجرس، أصدقاء لحراسه!
موضوعات مقترحة
فى مؤتمر صحفى عقد عقب مقتل راشيل كورى بثلاثة أيام فقط، قال ريتشارد بوشيه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: "عندما نتعرض لوفاة مواطن أمريكى، فإننا نريد أن نرى تحقيقا كاملا فى الحادث، وتلك أحد أهم مسئوليتنا الرئيسية عبر الحدود، الحرص على رعاية المواطنين الأمريكيين، ومعرفة ما حدث لهم فى مثل تلك الوقائع". ولكن فى النهاية وكما تشهد أروقة السلطة، يقتصر الأمر على "عزاء بارد" وأكوام من الوثائق شاهدة على عقم التحقيقات والجهود التى بذلت على مر السنين وراء الكواليس فى واشنطن.
حرب الظل التى يتعرض لها نشطاء السلام بالأراضى المحتلة، تشمل العديد من الإجراءات القمعية وتهديدات بالقتل، فإذا كانت التصفية الجسدية هى ذروة التل، فتحت الأرض مشاهد مروعة.
وفقا لتقرير بصحيفة "الجارديان"البريطانية، تتفاوت الإجراءات وتتنوع ما بين الاعتقال، مصادرة الملصقات، الفصل من وظائفهم، وتعليق عمل البعض لمجرد وضع صورة بالملف الشخصى عبر وسائل التواصل الاجتماعى لحمامة تحمل غصن الزيتون.
وكان المشهد الأكثر إيلاما ووحشية، هو مقتل الناشطة الأمريكية من أصول تركية عائشة نور إزجى إيجي.
السجلات مكتظة بأسماء ووقائع خارج رادار الرصد الإعلامى، أو سرعان ما باتت فى طى النسيان، مثل الشاب التركى ـ الأمريكى فوركان دوغان-18 عاما- أحد 9 نشطاء سلام، تم قتلهم بدماء باردة على يد الإسرائيليين فى عام 2010 على متن سفينة "إم فى مافى مرمرة "التى شاركت فى أسطول الحرية الذى ضم عددا من السفن حملت على متنها 6 آلاف طن من المساعدات الإنسانية، و750 ناشطا من 36 دولة عربية وأجنبية، من بينهم سياسيون وصحفيون وكتاب وفنانون، بهدف كسر الحصار المفروض على قطاع غزة. وتعرضت أثناء إبحارها فى المياه الدولية قبالة السواحل الفلسطينية للاعتداء من قبل الإسرائيليين.
كما نتذكر محمود شعلان - 16عاما - الصبى الفلسطينى ـ الأمريكى الأعزل الذى قتل فى عام 2016 أثناء عبوره نقطة تفتيش فى الضفة الغربية، وعمر أسعد البالغ من العمر 78 عاما، والذى كان يمتلك متجرا للبقالة فى ميلووكى بولاية ويسكنسن الأمريكية، وتوفى إثر إصابته بنوبة قلبية عام 2022، بعد أن سحبه جنود إسرائيليون من سيارته، ثم قاموا بتعصيب عينيه وقيدوه بالأصفاد. وذلك بحسب ما ذكره موقع "ذا إنترسبت".
كما تخاذلت الإدارات الأمريكية فى التحقيق فى الإصابات الخطيرة التى لحقت بالعديد من المواطنين الأمريكيين على يد الإسرائيليين، بما فى ذلك الاعتداء بالضرب على طارق أبو خضير البالغ من العمر 15 عاما، بينما كان يقوم بزيارة لعائلته فى القدس قادما من فلوريدا عام 2014. وقبل ذلك بيوم واحد، اختطف المستوطنون الإسرائيليون ابن عم خضير البالغ من العمر 16 عاما، محمد أبو خضير، الذى لم يكن مواطنا أمريكيا وأحرقوه حيا.
تجربة السعى نحو تحقيق العدالة، كانت فى كثير من الأحيان مؤلمة ومرهقة بقدر صدمة الفقد ذاتها. وإذا كان المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى، قد قال فى وقت سابق، إن الولايات المتحدة الأمريكية اتصلت بمسئولين إسرائيليين "لطلب إجراء تحقيق فى الحادث" الخاص بالناشطة الأمريكية التركية عائشة، كما طالبت عائلتها بإجراء تحقيق مستقل، فإن كواليس تجربة راشيل كورى، تشعرنا بخيبة الأمل وعبثية وعقم التحقيقات والرفض القاطع لنتائجها مسبقا.
لقد قتلت كورى فى السادس عشر من مارس 2003، عندما كانت فى الثالثة والعشرين من عمرها. وبعد 12 عاما، فى ذكرى وفاتها، التقى والدها وشقيقتها مع أنتونى بلينكن للمرة الأخيرة، وتحدث إليهم نائب وزير الخارجية آنذاك بالطريقة الصادقة التى اعتادوا عليها جيدا، وقال لهم فى نهاية الاجتماع: "فى انتظار عودتكم فى أى وقت". لكن كان آل كورى قد فقدوا الرغبة فى العودة ثانية، فقد اجتمعوا مع بلينكن لسنوات، حيث دفعهم مقتل راشيل إلى عتبات مكاتب كبار المسئولين بالإدارة الأمريكية، مثل مكتب بلينكن على مر سنوات، ولكنهم للأسف لم يقتربوا بأى حال من المساءلة القانونية للجانب الإسرائيلى الذى ارتكب تلك الجريمة، والعدالة التى كانوا يسعون إليها. كان بلينكن- وزير الخارجية اليوم واحدا من بين العديد ممن التقوا بهم، والذين يشغلون اليوم مناصب رفيعة بإدارة جو بايدن. أحبه آل كورى، وقدروا جهوده، عبر رسائله إليهم بالبريد الإلكترونى كان دائما يوقع باسمه "تونى"، لكن فى نهاية المطاف لم يحصوا على القصاص لحق ابنتهم راشيل.
وفى آخر زيارة لهم، وعندما همت سارة شقيقة راشيل بالمغادرة، أدركت أن الملف قد تم غلقه؛ فقد طلب منها بلينكن أن تتابع الأمر عبر البريد الإلكترونى، وكتب متحدثا باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن الادارة ملتزمة بتصريحات الإدارات السابقة وكانت وفاة راشيل كورى مأساوية، ونكرر تعازينا لعائلتها.
ولقد دعت الولايات المتحدة الأمريكية باستمرار إلى إجراء تحقيق شامل وموثوق وشفاف فى مقتل راشيل".
وتوقفت سارة شقيقة راشيل عن إحصاء لقاءات العائلة مع المسئولين الأمريكيين، عندما وصلت عام 2021 نحو 200 لقاء، وقالت: "من المؤلم من الناحية العاطفية والنفسية أن نضطر إلى العودة لإعادة النظر فى الأمر مرارا وتكرارا".
وبحسب موقع "ذا إنترسبت" الذى التقى على مدار يومين بسارة، فى منزلها بإحدى ضواحى أوليمبيا. تحدث آل كورى طويلا عن محادثتهم مع كبار المسئولين، بمن فيهم مدير "وكالة المخابرات المركزية الأمريكية" "سى أى إيه" وليام بيرنز، أخرجت سارة الصناديق القديمة من الوثائق، وشاركت عشرات الملفات التى توضح الجهود والمحاولات التى تطالب الجانب الإسرائيلى بإجراء تحقيق شامل، وتضمنت تلك الوثائق، اتصالات مع كبار المسئولين، ملاحظات عن الاجتماعات، مئات الصفحات التى حصل عليها آل كورى من خلال طلبات السجلات العامة، مثل البرقيات الدبلوماسية، والمذكرات الداخلية الخاصة بوزارة الخارجية، والرسائل المتبادلة بين أعضاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة وأعضاء الكونجرس.
هذه الملفات وشهادة عائلة كورى، ترسم صورة دامغة لعبثية الجهود الأمريكية الرامية إلى تحقيق المساءلة، إذ يتبين من تلك الوثائق أن العديد من كبار المسئولين حاولوا على مدى أشهر انتزاع إجابات من نظرائهم الإسرائيليين. ولكن الافتقار إلى الإرادة السياسية من جانب السلطة التنفيذية والكونجرس الأمريكى لفرض عقوبات على الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان أدى إلى تقليص تلك الجهود إلى مجرد إيماءات لا معنى لها، فى حين كان اللاعبون المعنيون يدركون تمام الإدراك أنها لن تؤدى إلى تغيير حقيقي.
فى الولايات المتحدة الأمريكية، قدم عدد من المشرعين فى وقت سابق منذ حوالى عامين، تعديلا على ميزانية الدفاع لإجبار وزارة الخارجية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالى، الذى يتولى بانتظام عمليات التحقيق فى الجرائم الخطيرة، التى ترتكب ضد المواطنين الأمريكيين فى الخارج، ولكن للأسف فشل المقترح بالتعديل.
أخيرا.. تعددت الأسماء والجنسيات والسيناريو واحد، مثل توم هرندل الناشط البريطانى الذى توفى إثر إصابته برصاصة فى رأسه أطلقها قناص إسرائيلى فى غزة، وذلك أثناء محاولته إنقاذ أحد الأطفال من وابل الرصاص الإسرائيلي. وتركته تلك الإصابة فى غيبوبة لمدة 9 أشهر وتوفى فى 13 من يناير عام 2004، عن عمر يناهز 22 عاما.
وكان هرندل عضوا فى حركة التضامن الدولية. وقتل البريطانى أيضا جيمس ميلر-34- عاما أثناء تصويره فيلما فى مخيم للاجئين الفلسطينيين فى مدينة رفح فى قطاع غزة عام 2003، لرصد واقع الأطفال الفلسطينيين هناك.