د. أليكسندر أجييف: الأنظمة المالية العالمية الحالية تفتقر إلى التوازن وتعاني من تحيزات تفضيلية
موضوعات مقترحة
د. محمد عاشور: ثلاث لعنات رئيسية تواجهها دول غرب إفريقيا ومنطقة الساحل منذ الاستقلال
د. غادة فؤاد: الفرنك الإفريقي عرقل التنمية ولا يحظى بقبول خارج نطاق الدول المستخدمة له
د.جوناثان أريمو: عملة CFAتمثل إرثًا من السياسات الاستعمارية الفرنسية التي لا تزال تفرض قيودًا
د.أحمد يعقوب: العلاقات الاقتصادية الحالية بين دول الساحل والغرب تمثل ابتزازًا واستغلالًا مستمرًا
سياكا كوليبالي: الإدارة الجديدة في كونفدرالية الساحل تسعى للخروج من هيمنة النفوذ الفرنسي
أبو بكر مهمن: ضرورة تبني نهج سياسي يعزز من دور المواطن في العملية السياسية ويضمن توزيعًا عادلًا
د.إسماعيل طاهر: النزاعات المسلحة لا يمكن اختزالها في كونها مجرد صراعات إثنية كما يصورها الغرب
لطالما كان الفرنك الإفريقي، العملة التي تستخدمها 14 دولة إفريقية، موضوعًا مثيرًا للجدل والنقاش منذ إنشائه في عام 1945، هذه العملة، التي تم تأسيسها كرمز لاستمرار السيطرة الفرنسية على مستعمراتها السابقة، أصبحت اليوم رمزًا للاعتماد الاقتصادي والسياسي في منطقة الفرنك الإفريقي، منذ انتهاء الاستعمار في منتصف القرن العشرين، ظل الفرنك الإفريقي العملة الرسمية للعديد من الدول في غرب ووسط إفريقيا، مما أثار تساؤلات حول مدى استقلالية هذه الدول فعليًا في رسم سياساتها الاقتصادية والمالية.
ومع تزايد الدعوات للإصلاح الاقتصادي وتعزيز السيادة الوطنية، تتعالى الأصوات المطالبة بإعادة النظر في نظام الفرنك الإفريقي، الذي يعتبره البعض عقبة أمام التنمية الاقتصادية الحقيقية والقدرة على التفاعل المستقل مع الأسواق العالمية، وأنه أحد أهم الأسباب التي تسببت في تنمية التخلف وانتشار الإرهاب والتطرف في منطقة الساحل، في هذا التحقيق، نستكشف التاريخ المعقد للفرنك الإفريقي، ونسلط الضوء على تأثيراته الاقتصادية والسياسية على دول منطقة الساحل الإفريقي، ونستعرض الجهود الحالية لإعادة النظر في هذه العلاقة النقدية مع فرنسا، فهل حقاً حان الوقت لتحرير الاقتصادات الإفريقية من "الفرنك الإفريقي" أم أن هناك حاجة لتفكير استراتيجي أكثر عمقًا للحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي معاً؟.
النظام العالمي
في البداية، قال الدكتور أليكسندر أجييف، المدير العام للمعهد الدولي لأبحاث النظم المتقدمة (IRIAS) في موسكو، إن هناك العديد من الفرص الواعدة في منطقة غرب إفريقيا ودول الساحل بفضل التكنولوجيات المتقدمة المتوفرة حالياً، والتي يمكن أن تحدث تحولاً اقتصادياً واجتماعياً في هذه المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية." ومع ذلك، أوضح أجييف أن التحدي الأكبر لمنطقة الساحل يكمن في توفير التمويل اللازم لدعم هذه التطورات والاستثمارات الحيوية، كما أننا نواجه مشكلة أساسية في التمويل الدولي تتعلق بعدم العدالة في توزيع الموارد المالية والتسهيلات الائتمانية.
و أضاف أجييف، أن الأنظمة المالية العالمية الحالية تفتقر إلى التوازن وتعاني من تحيزات تفضيلية، مما يعيق تحقيق التنمية المستدامة في المناطق الأكثر حاجة مثل الساحل الإفريقي.
وأكد أجييف على الحاجة الملحة لتأسيس بنوك تنمية جديدة تعتمد على مفهوم التعددية القطبية، بعيداً عن الهيمنة الأحادية لبعض القوى الاقتصادية الكبرى، "نحن بحاجة إلى مؤسسات مالية دولية تكون أكثر شمولاً وتعاوناً، قادرة على توفير الدعم المالي للدول النامية والاقتصادات الناشئة بطرق عادلة وشفافة"،لافتاً إلى أن هذا التوجه يمكن أن يسهم في خلق بيئة مالية أكثر توازناً تسهم في تحقيق التنمية المستدامة، بالإضافة إلى ذلك، شدد على ضرورة تطوير نظم جديدة للمدفوعات تكون مستقلة ومرنة، تتيح للدول الإفريقية الاعتماد على نفسها وتحقيق سيادة مالية حقيقية، مما يمكنها من التصدي للتحديات الاقتصادية والأمنية، بما في ذلك الإرهاب والتطرف، التي تهدد استقرار المنطقة.
وأشار الدكتور أجييف إلى أن التكنولوجيا المتقدمة، مثل البلوك تشين والعملات الرقمية، يمكن أن تلعب دوراً محورياً في هذا التحول، من خلال تسهيل عمليات التمويل والمدفوعات بشكل آمن وشفاف، وتحقيق مزيد من الشمول المالي، "إن الابتكار التكنولوجي يجب أن يكون جزءاً من الحلول المستدامة لتعزيز التنمية الاقتصادية في إفريقيا، وتوفير بيئة استثمارية جاذبة وآمنة، تسهم في تعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة،" اختتم أجييف تصريحه.
اللعنات الثلاثة
من جانبه، أكد الدكتور محمد عاشور، أستاذ العلوم السياسية في كلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، "إن من يتحكم في تيار التدفق النقدي داخل بلداننا الإفريقية هو من يحدد مسارات التنمية ويشكل مستقبل هذه المنطقة، مضيفاً أن الأزمة التي تعاني منها دول منطقة الساحل وغيرها من الدول الإفريقية حالياً تعود إلى ثلاث لعنات رئيسية تواجهها منذ الاستقلال.
يرى عاشور أن الدول الإفريقية ورثت حدوداً استعمارية لم تكن مصممة لتكون أساساً لدول مستقلة قادرة على تلبية احتياجات شعوبها، هذه الحدود التي كانت تلبي احتياجات المستعمرات لم تكن قادرة على تلبية احتياجات الدول المستقلة التي ورثتها، فالحدود التي قد تكون ملائمة لمستعمرة، قد لا تكون كذلك لدولة مستقلة تحتاج إلى توفير الخدمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لشعبها."
وأشار إلى أن عدم توفر الموارد الطبيعية بشكل كافٍ، أو سوء استغلالها، أدى إلى عجز العديد من الدول الإفريقية عن تحقيق التنمية المطلوبة، "الدول الفقيرة في الموارد لم تستطع الوفاء بالتزاماتها تجاه شعوبها، ولم تتمكن من القيام بوظائف الدولة الأساسية، مما أدى إلى ضعف في مؤسسات الدولة وفقدانها القدرة على تلبية احتياجات المواطنين.
ولفت الدكتور عاشور إلى أن ضعف الموارد وسوء إدارتها أدى إلى ظهور الفساد والمحسوبية، في ظل قلة الموارد وسوء توزيعها، أصبحت الموارد تذهب لمن هم أقرب للسلطة، مما حول السلطة إلى جائزة تتصارع عليها الجماعات المختلفة، هذا الصراع على السلطة أدى إلى تكالب الفئات المختلفة على الوصول إلى الحكم، مما زاد من تفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة."
واختم بالقول إن هذه اللعنات الثلاث تشكل عقبات رئيسية أمام تقدم الدول الإفريقية وتحقيقها للاستقرار والتنمية، وأن حل هذه المشكلات يتطلب إصلاحات جذرية في النظام السياسي والاقتصادي والإداري في القارة.
استقلالية القرار
من جانبها، أكدت الدكتورة غادة فؤاد، مديرة المركز الأفريقي للأبحاث ودراسات الاستراتيجية، أن التبعية النقدية للفرنك الأفريقي تمثل واحدة من أبرز التحديات التي تواجه دول الساحل الأفريقي، موضحة أن "الفرنك الأفريقي، كعملة مرتبطة بدولة خارج حدود القارة، يحد من استقلالية دول منطقة الساحل الأفريقية في قراراتها النقدية والمالية، مما يؤثر سلبًا على قدراتها في جذب الاستثمارات وتحقيق التنمية المستدامة.
وأضافت مديرة المركز الأفريقي للأبحاث ودراسات الاستراتيجية، أن دول غرب ووسط إفريقيا التي تستخدم الفرنك الأفريقي تعاني منذ عقود من عدم القدرة على اتخاذ قرارات اقتصادية مستقلة، وهو ما يدفعها الآن للبحث عن حلول جذرية لتلك المشكلة، فالعملة المربوطة بالخارج تعرقل التنمية الاقتصادية وتحد من قدرة الدول على جذب الاستثمارات اللازمة لتحقيق النمو، خاصة وأنها لا تحظى بقبول واسع خارج نطاق الدول المستخدمة لها، مما يزيد من صعوبة تحويل الأموال وضمان عوائد استثمارية مستقرة."
وأشارت إلى أن السعي نحو خلق عملة نقدية مستقلة من شأنه أن يعزز من استقلالية القرار الاقتصادي لدول الساحل الأفريقي، ويتيح لها مرونة أكبر في التعاملات الاقتصادية، مما يساهم في تحسين المناخ الاستثماري في المنطقة، كما تطرقت الدكتورة غادة إلى ضرورة جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، موضحة أن خلق فرص استثمارية جديدة هو أمر حيوي ليس فقط لتعزيز الاقتصاد، بل أيضًا لمواجهة التحديات الأمنية مثل الإرهاب، حيث يمكن توفير فرص عمل للشباب وتقليل انضمامهم للجماعات المتطرفة.
وأكدت على أهمية التعاون مع الشركاء الدوليين بما يحقق التوازن والعدالة في استغلال الموارد الطبيعية في المنطقة، مشيرة إلى أن الدور الروسي في المنطقة مؤخراً قد يساهم في تعديل موازين القوى الاقتصادية، ويوفر بدائل وشروط أكثر عدالة في التعاون الاقتصادي، واختمت بالقول: "نحن بحاجة إلى إصلاحات تشريعية واقتصادية جذرية تمكن دول الساحل من تحقيق استقلالية اقتصادية حقيقية والاستفادة من مواردها الطبيعية لتحقيق التنمية المستدامة.
الإرث الاستعماري
من جانب آخر، أشار الدكتور جوناثان أريمو، أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية ة في جامعة كوفينانت في نيجيريا والخبير بتجمع الإيكواس، إلى أن إفريقيا تعد شريكًا اقتصاديًا مهمًا على الساحة العالمية، لقد وضعنا العديد من السياسات لتحقيق الوحدة بين الدول الإفريقية، ولكن التبعية النقدية التي تعاني منها دول غرب ووسط إفريقيا لا تزال تشكل عائقًا كبيرًا أمام تحقيق التنمية المستدامة.
وأوضح أريمو أن دول الإيكواس تواجه تحديات مشتركة، من أبرزها مشكلة الدين العام والتضخم، إلى جانب التبعية النقدية للفرنك الإفريقي، وهي عملة تمثل إرثًا من السياسات الاستعمارية الفرنسية التي لا تزال تفرض قيودًا على السياسات النقدية والمالية للدول الإفريقية، موضحاً أنه لن يكون هناك تقدم وتنمية حقيقية ما لم نتحرر من إرث السياسات التي فرضها المستعمر السابق، مضيفاً أن تجمع الإيكواس يعمل حاليًا على مواجهة هذه التحديات من خلال تبني سياسات تهدف إلى تعزيز الاستقلال النقدي وتأسيس عملة موحدة تحقق العدالة والاستقرار الاقتصادي في المنطقة.
وأكد أريمو على أهمية التعاون مع روسيا كدولة ذات نفوذ عالمي يمكن أن تقدم دعمًا مهمًا للدول الإفريقية في مساعيها لتحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة، وعلينا أن نوطد التعاون مع روسيا، ولكن الأهم من ذلك هو توحيد الصفوف كدول إفريقية والاتفاق على إصدار عملة موحدة، موضحاً أن التعاون مع روسيا، بما تمتلكه من خبرات واسعة في مجالات متعددة، قد يساعد إفريقيا في تحقيق أهدافها التنموية، ولكن يجب أن يأتي ذلك في إطار من التعاون الداخلي أولاً، بين الدول الإفريقية نفسها، لضمان ترتيب الأولويات بشكل صحيح وتحقيق أقصى استفادة من الشراكات الدولية."
وأشار إلى أن الاستعمار لم يؤثر فقط على الحدود والسياسات الاقتصادية، بل أوجد أيضًا سياسات تهدف إلى خلق ولاءات اقتصادية وسياسية للمستعمر القديم، حيث أن "مشكلة الاستيعاب والدمج التي قام بها المستعمر لا تزال تؤثر على اقتصاداتنا بشكل كبير، ونحن بحاجة إلى تغيير هذا الواقع من خلال التعاون بيننا كدول إفريقية مستقلة تمتلك الحق في تحديد مسارها الاقتصادي بحرية، وفقًا لما يقره ميثاق الأمم المتحدة من حقوق."
واختتم الدكتور أريمو حديثه بالتأكيد على أن إفريقيا يجب أن تتصرف ككتلة اقتصادية مستقلة وموحدة، قادرة على التعامل والتعاون بحرية مع الدول خارج القارة وفقًا لمصالحها الوطنية، "تحقيق الأهداف التنموية يتطلب منا العمل معًا، وتوحيد جهودنا، والاستفادة من الشراكات العالمية لتحقيق نمو اقتصادي حقيقي ومستدام في إفريقيا."
التعليم كأداة للتغيير
في المقابل، سلط الدكتور أحمد يعقوب، خبير فض المنازعات ورئيس مركز الدراسات للتنمية والوقاية من التطرف في تشاد، الضوء على التداعيات السلبية للنفوذ الغربي في منطقة الساحل وتأثيره العميق على الاقتصاد والتنمية، مؤكداً أن الدول الأفريقية، وخاصة في منطقة الساحل، تعاني من إرث استعماري ثقيل، حيث أشار إلى أن معظم هذه الدول كانت تحت السيطرة الفرنسية لفترة طويلة، بما في ذلك تشاد، النيجر، ومالي، وأضاف: "إذا نظرنا إلى نتائج الاستعمار الفرنسي في هذه الدول وما تلاه من فترة ما بعد الاستقلال في الستينيات حتى الآن، نجد أن النتائج غير مرضية تمامًا، هناك شعور متزايد في هذه الدول، ودول أخرى في الساحل مثل موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي، بمناهضة النفوذ الفرنسي والغربي."
وأوضح يعقوب أن هذا الشعور بالاستياء تفاقم بشكل خاص بعد فشل التدخلات العسكرية الغربية في القضاء على التطرف والإرهاب، مما أدى إلى تصاعد الوعي لدى المجتمع المدني بأهمية بناء استراتيجية جديدة للدفاع عن المصالح الأفريقية. وأردف: "لا ندعو إلى استبدال النفوذ الغربي بنفوذ آخر، سواء كان صينيًا أو روسيًا، ولا نطالب بالصراع ضد الغرب لصالح دول أخرى. بل ندعو إلى شراكات واتفاقيات تعود بالنفع المتبادل على جميع الأطراف."
وأشار إلى أن العلاقات الحالية بين دول الساحل والغرب تمثل "ابتزازًا واستغلالًا مستمرًا"، حيث استشهد بمثال تشاد، التي لم تحظ بأي تطوير عمراني يُذكر من قبل فرنسا طوال فترة استعمارها التي تجاوزت القرن، وعلى النقيض، فإن الصين، في فترة قصيرة، قامت ببناء مستشفيات، وبرلمانات، وطرق. وأوضح: "هذا يبرز التباين الواضح في كيفية تعامل القوى الأجنبية مع القارة الأفريقية ومصالحها."
وأكد يعقوب على ضرورة أن تدافع أفريقيا عن مصالحها من خلال تعزيز سيادتها الاقتصادية والسياسية، مشددًا على أهمية التفاوض مع جميع الدول المتقدمة وفقًا لمصالح الشعوب الأفريقية. وأشار إلى أن "العالم أصبح قرية صغيرة، ومن الضروري أن نعمل جميعًا معًا لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة."
وتناول الدكتور أحمد يعقوب دور الاتحاد الأفريقي، واصفًا إياه بأنه "وعاء يحتاج إلى الملئ" في الوقت الحالي، وأضاف: "إذا كان الاتحاد الأفريقي لا يستطيع تمويل ميزانيته السنوية دون اللجوء إلى الدعم الأوروبي أو الأمريكي، فكيف يمكن أن يكون له دور فعال في الدفاع عن مصالح القارة الأفريقية؟". وأكد على أن استقلالية الاتحاد الأفريقي المالية والسياسية هي السبيل الوحيد لضمان قدرته على اتخاذ قرارات مستقلة تعكس تطلعات الشعوب الأفريقية.
وشدد يعقوب على أن التعليم هو المفتاح لتغيير الواقع الأفريقي، قائلاً: "لابد من التركيز على التعليم وتعزيزه في جميع أنحاء القارة. يجب أن ندعم الأجيال القادمة بالمعرفة والوعي اللازمين لمواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية، ولتحقيق استقلال حقيقي بعيدًا عن الهيمنة الأجنبية." وأشار إلى أن روسيا لعبت دورًا مهمًا منذ الستينيات في تقديم المنح الدراسية للطلاب الأفارقة، وهو نموذج يمكن أن يحتذى به لتعزيز التعاون التعليمي مع دول أخرى.
وعن مستقبل التنمية في دول الساحل، أعرب يعقوب عن أمله في أن تؤدي الندوات والمؤتمرات إلى نتائج عملية وتنفيذية، مشددًا على ضرورة الاستمرارية في متابعة تنفيذ التوصيات والقرارات التي يتم اتخاذها، وقال: "نحن لا نريد أن تكون المؤتمرات العلمية مجرد واحدة من بين مئات الندوات التي تُعقد دون أثر حقيقي. نريد متابعة جادة ونتائج ملموسة تعود بالنفع على شعوبنا."
واختنم الدكتور أحمد يعقوب تصريحاته بالتأكيد على أن أفريقيا تقف عند مفترق طرق، وأنه من الضروري اتخاذ خطوات حاسمة لبناء مستقبل أفضل لأجيالها القادمة، بعيدًا عن الظلم والاستغلال الذي عانته لعقود. وأكد: "يجب أن نكون مستعدين للوقوف في وجه التحديات بقوة، وأن نسعى لبناء شراكات تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بدلاً من الاستمرار في الخضوع للهيمنة والاستغلال."
الاتحاد الكونفدرالي
وألقى سيَّاكا كوليبالي، المحلل السياسي البارز في بوركينا فاسو الضوء على الوضع المعقد الذي تعيشه دول الساحل الإفريقي بسبب الإرث الاستعماري الفرنسي، موضحاً أن هذه الدول، بما في ذلك مالي، النيجر، وبوركينا فاسو، عانت من عدة أشكال من التبعية منذ عهد الاستعمار الفرنسي، بما في ذلك التبعية الاقتصادية والعسكرية، ومشيراً إلى أن الاتحاد الكونفدرالي الذي تم تأسيسه بين هذه الدول يهدف إلى إنهاء هذه التبعية المستمرة ومعالجة المشاكل المتجذرة التي خلفها الاستعمار، والتي لا تزال تؤثر بشكل كبير على الحوكمة في هذه البلدان حتى اليوم.
وأضاف كوليبالي قائلاً: "ما زالت السيطرة والنفوذ الفرنسي مستمرين في دولنا، والفرق الوحيد بعد الاستقلال هو أن الأشخاص الفرنسيين الذين كانوا في مواقع السلطة تم استبدالهم بآخرين موالين لهم من داخل دولنا لضمان استمرار السيطرة على شعوبنا، وذكر أن المستعمر الفرنسي قام بإنشاء نخب محلية قبل الاستقلال ووضعها في مواقع الصدارة لضمان استمرار النفوذ الفرنسي في المنطقة، هذه النخب، وفقًا لكوليبالي، تحالفت مع جماعات مسلحة غير رسمية وشبكات مصالح دولية، بهدف وقف أي جهود للتنمية أو التقدم في هذه الدول.
وأكد كوليبالي أن الإدارة الجديدة في بلاده تسعى جاهدة للخروج من هيمنة النفوذ الفرنسي من خلال تنويع شبكة علاقاتها الدولية، وفي هذا السياق، أشار إلى الجهود المبذولة لعقد شراكات استراتيجية مع دول مثل روسيا والهند، بهدف البحث عن شركاء حقيقيين يمكنهم دعم خطط التنمية والنمو الاقتصادي لبلادهم.
وأضاف: "إننا نسعى جاهدين لإقامة شراكات تعود بالنفع المتبادل وتساعدنا في تحقيق أهدافنا التنموية والاقتصادية بعيدًا عن التدخلات والضغوط الخارجية التي تعيق تقدمنا." وأوضح أن دول الساحل، بفضل هذه الشراكات الجديدة، يمكن أن تكون قادرة على تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والسياسية التي طالما حلمت بها، بعيدًا عن النفوذ الأجنبي المتجذر.
معوقات التنمية
ويرى أبو بكر الحاج مهمن، رئيس جالية النيجر بالقاهرة، أن السياسة المركزية المتبعة في الأجهزة الإدارية الحكومية في دول الساحل، بما في ذلك النيجر، تشكل عائقًا كبيرًا أمام تحسين كفاءة الجهاز الإداري للدولة، موضحاً أن النهج المركزي يؤدي إلى عدم توزيع السلطات والمهام بشكل متوازن، إضافة إلى وجود تفرقة وتمييز بين أبناء الوطن الواحد في مجالات مثل التعليم والتعيينات في الأجهزة الحكومية.
وأكد الحاج مهمن أن السياسات كانت وما زالت السبب الرئيسي وراء عدم قدرة دول الساحل، ومنها النيجر، على رفع كفاءة مؤسساتها الحكومية، مضيفاً أن هذه السياسات تسهم في عدم قدرة الحكومات على الوفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين، خاصة فيما يتعلق بالتعيينات الحكومية والخدمات المقدمة للمواطنين، وأدى ذلك إلى خلق فجوة كبيرة وأزمة ثقة بين حكومات هذه الدول ومواطنيها، مشيراً إلى أن ممارسة السياسة والانضمام إلى الأحزاب أصبحت وسيلة للكسب المالي السريع وزيادة النفوذ من خلال الوصول إلى السلطة.
وأضاف: "ينبغي إعادة النظر في كيفية ممارسة السياسة في النيجر ودول الساحل الأخرى، لضمان أن تكون السياسات والقرارات متجذرة في مصلحة الشعب، وليس لتحقيق مكاسب خاصة لبعض الأفراد أو الجماعات"،مؤكداً على أهمية تبني نهج سياسي يعزز من دور المواطن في العملية السياسية ويضمن توزيعًا عادلًا للفرص والموارد بين جميع أفراد المجتمع، مما سيسهم في بناء ثقة أكبر بين المواطنين والحكومة ويعزز من استقرار الدولة على المدى البعيد.
النزاعات والصراع
وفى السياق، أكد الدكتور إسماعيل طاهر، الباحث في الشؤون الأفريقية بجامعة نجامينا، أن السياسات الاستعمارية لها تأثيرات عميقة ومستدامة على الحكم والإدارة في تشاد، مشيرًا إلى أن الكثير من النزاعات والصراعات التي تحدث في منطقة الساحل لا يمكن اختزالها في كونها مجرد صراعات إثنية كما يصورها بعض الباحثين الغربيين، بل هي في الواقع صراعات على السلطة بين الجماعات المكونة للمجتمع، تسعى كل منها إلى الحصول على مكاسب أكبر في الحياة السياسية ومميزات تعزز من سلطتها.
وأشار طاهر إلى أن هذه الصراعات، التي يُنظر إليها غالبًا على أنها نتيجة لتعدد الإثنيات في المنطقة، هي في جوهرها نزاعات على السلطة والحكم. وأضاف أن الجماعات المختلفة في تشاد ومنطقة الساحل بشكل عام تتنافس على النفوذ السياسي والاقتصادي، وهو ما يعكس رغبتها في التحكم بالموارد والمناصب الحكومية التي تُعتبر أدوات مهمة لتعزيز السلطة والنفوذ.
كما أكد أن الإدارة الاستعمارية الفرنسية في تشاد وغيرها من دول الساحل ساهمت في تكريس هذه الصراعات، من خلال تبني سياسات "فرق تسد" وتفضيل مجموعات معينة على حساب أخرى، مما أوجد بيئة من التنافس والصراع المستمر على النفوذ، ونتيجة لذلك، استمرت هذه النزاعات حتى بعد الاستقلال، حيث ورثت الدول الأفريقية الحديثة هذه البنى المؤسسية والسياسية الهشة وعلى رأس تلك البني يقع الفرنك الإفريقي.
وأوضح طاهر أن الفهم الصحيح لطبيعة هذه الصراعات يتطلب النظر في السياق التاريخي للاستعمار وتأثيراته على المجتمعات الأفريقية، وخاصة في دول الساحل، وشدد على ضرورة إعادة النظر في السياسات المتبعة والعمل على بناء نظم حكم أكثر شمولية وتمثيلاً لجميع فئات المجتمع، بما يعزز من الاستقرار السياسي والتنمية في المنطقة.
مسألة سياسية
يتجلى مما سبق ذكره أن التبعية النقدية للفرنك الإفريقي (FCFA) ليست مجرد مسألة اقتصادية بحتة، بل هي امتداد معاصر لعلاقات استعمارية قديمة تسعى فرنسا من خلالها إلى الحفاظ على نفوذها في منطقة الساحل الإفريقي، هذه التبعية تعيق دول الساحل من تحقيق استقلالها الاقتصادي الحقيقي وتحد من قدرتها على صياغة سياسات نقدية ومالية تخدم مصالحها الوطنية، ومع ذلك، تبرز أمام هذه الدول فرصة حقيقية للتحرر من عباءة الاستعمار النقدي، عبر تبني سياسات جريئة وإيجاد شراكات دولية جديدة تعزز من استقلاليتها.
في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، يظهر أمام دول الساحل مسارًا معقدًا ولكنه ضروري، يتطلب مواجهة التحديات الداخلية من فقر وأمية وضعف أمني، جنبًا إلى جنب مع التحديات الخارجية المتمثلة في النفوذ الفرنسي المتجذر، إن تبني نهج متكامل يجمع بين الإصلاحات النقدية وبناء مؤسسات قوية قادر على دفع دول الساحل نحو تحقيق نمو اقتصادي مستدام واستقرار مالي حقيقي.