عندما يتحدث المؤرخون عن الأمير الأموي محمد بن عبد الرحمن الأوسط، الذي حكم بلاد الأندلس لـ35 عاما بين عامي (238ـ273هـ/852ـ886م) فإن لديهم الكثير ليقولوه، فهو من بنى مدينة مدريد عاصمة إسبانيا الحالية، وهزم الفايكينج الذين أغاروا على الموانئ الإسلامية، وأحد أول الحكام الذين قاوموا الإساءة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفي هذا التقرير ننشر سيرة ومسيرة هذا الأمير الذي تولى الحكم في الأندلس في مثل هذا اليوم 24 سبتمبر سنة 852م.
موضوعات مقترحة
وُلد محمد بن عبد الرحمن الأوسط عام 207هـ/ 822م في كنف أبيه الأمير عبد الرحمن الأوسط الذي حكم بلاد الأندلس (تشمل اليوم إسبانيا والبرتغال) نحو 33 عاما، وقد أظهر همة كبيرة في مطلع صباه وشبابه، فتلقى العلم على يد كبار شيوخ قرطبة، وأوكل إليه والده عدة مهام سياسية وعسكرية فولاه مدينة سرقسطة (عاصمة الثغر الأعلى لبلاد الأندلس)، واصطحبه معه في حملته على مدينة بنبلونة عاصمة بلاد البشكنس في أقصى الشمال الشرقي لإسبانيا عام 228هـ/842م، واستقبل رسل ملك الإفرنج، بل قاد جيشًا لمحاصرة مدينة ليون الفرنسية عام 231هـ/845م.
أفضت الإمارة الأموية في الأندلس إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط بعد وفاة أبيه ليكون خامس أمراء بني أمية في الأندلس.
قضى الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط سنوات حكمه في القضاء على الفتن والثورات التي قادها المتمردون والعصاة ضد الإمارة الأموية في قرطبة، لقد ورث دولة غنية ومترفة في عهد والده، فلما كثرت الرفاهية ظهرت أطماع المتمردين فيها، وكانت أقوى تلك الثورات تلك التي اشتعلت في مدينة طليطلة (وسط بلاد الأندلس)، والتي كان تدعمها الممالك الإسبانية النصرانية في بعض الفترات.
فى بداية عهده، ثار أهل طليطلة، وحبسوا عامل الأمير، فأرسل لهم الأمير محمد أخاه الحكم بن عبد الرحمن بحملة لتأمين أهالى قلعة رباح الذين فرّوا من مدينتهم خوفًا من أهل طليطلة، فنزل بالمدينة، وأمّن أهلها، ودعّم تحصيناتها، كما أرسل الأمير بجيش آخر لقتال أهل طليطلة، إلا أن تلك الحملة انهزمت، فخرج لهم الأمير محمد بنفسه فى العام التالى 240هـ/ 854م، وحين علموا بخروجه، راسلوا أردونيو الأول ملك أستورياس يستمدونه، فبعث لهم بقوات بقيادة شقيقه، فالتقاهم محمد بجيشه ووقعت معركة وادى سليط، وكان النصر للأمير على أهل طليطلة وحلفائهم، وفى عام 242 هـ/855هـ بعث بجيش بقيادة ابنه المنذر، حاصر المدينة وضيّق على أهلها.
وفى عام 254هـ/868م، خرج الأمير محمد بحملة أخضع بها تمرد مدينة ماردة (غرب الأندلس في دولة البرتغال حاليًا)، وصالحه أهلها على أن يخرج عددًا من قادتهم منهم عبد الرحمن بن مروان الجليقى بعائلاتهم إلى العاصمة الأندلسية قرطبة.
وما هدأت الثورة في طليطلة حتى اشتعلت الثورات في منطقة الثغر الأعلى الأندلسي (شمال إسبانيا الحالية)، فأرسل حملة إلى مدينة وشقة عام 256هـ/ 869م؛ وذلك لإخضاع تمرد عاملها عمروس بن عمر بن عمروس، الذى فرّ من المدينة قبل أن تصلها قوات الأمير، وفى عام 258هـ/ 871م غدر بنو قسى (أقوى الأسر ي منطقة شمال الأندلس) بعاملي الأمير على مدينتي تُطيلة وسرقسطة، فخرج لهم الأمير بنفسه عام 259هـ/872م وأسر منهم جماعة، وقدم بهم أسرى إلى قرطبة.
واجه الأمير عبد الرحمن الأوسط عدة تمردات كبرى خلال فترة حكمه، منها ثورات بني قسي في الشمال، وثورة عبد الرحمن الجليقي في الغرب، وعمر بن حفصون في الجنوب، وكانت الأخيرة هي أكثرها خطرًا، حيث انطلقت من مدينة ريه ولم ينتهى خطرها إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الناصر (حفيد ابنه عبد الله) سنة 302هـ/ 914م.
من أكثر الأخطار التي واجهها الأمير محمد بن عبد ارلحمن الأوسط هي هجمات قراصنة البحر "الفايكنج" والتي تصفها المصادر الإسلامية بهجمات النورمان أو المجوس، الذين كانوا يأتون بسفنهم الشراعية الخفيفة من أقصى شمال أوروبا (الدنمارك والسويد والنرويج) للإغارة على المدن والموانئ الإسلامية الغنية، ففي عام 240هـ/ 854م، حاولت سفن النورمان غزو غرب الأندلس بأربع وستين مركبًا، لكنهم فوجئوا باستعدادات سفن المسلمين التى كان الأمير عبد الرحمن الأوسط قد أمر بإعدادها بعد غزو النورمان الأول لغرب الأندلس فى عام 230هـ/ 844م، وحاول مركبين أن يجوزا، فاعترضتهم سفن المسلمين بالقرب من باجة، وأسرتهما، فاستكملت سفن النورمان حركتها حتى مصب نهر الوادى الكبير فى إشبيلية، فلقيوا مقاومة أيضًا، فتقدموا إلى الجزيرة الخضراء وتغلبوا عليها وأحرقوا مسجدها، ثم انصرفوا إلى المغرب، ومنه إلى ساحل تدمير، فحصن أريولة، ومنه إلى جنوب فرنسا، ثم اعترضتهم سفن المسلمين مرة أخرى فى طريق عودتهم وكانوا قد فقدوا نحو أربعين مركبًا من مراكبهم، فأسروا منها اثنين بالقرب من شذونة.
ورغم توالي الثورات ضده ونقص خزينة الدولة جراء ذلك، فلم يحاول الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط أن يُرهق الرعية بالضرائب، ولم يحصلها خلال فترات الجفاف والقحط، واهتم بالنواحي المالية وضرب على يد الفاسدين، ودعا الناس إلى مقاومة الطامعين والثوار ومجاهدة الممالك الإسبانية التي كانت تترصد للمسلمين في الأندلس.
وعمرانيًا، فقد اهتم محمد بن عبد الرحمن الأوسط ببناء عدة مدن جديدة في وسط إسبانيا، ولعل أشهر تلك المدن، مدينة "مجريط" أو "مدريد" عاصمة إسبانيا الحالية، وسُميت مجريط، لأنها كانت مزودة بقنوات المياه في كل جانب، فكلمة "مجرى" أي مجرى الماء، وكلمة "الطاء" في العامية الأندلسية القديمة نفيد الكثرة، فهي مدينة المجارى المائية الكثيرة والمتعددة.
حضاريًا، كان بلاط الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط يضم زمرة من كبار العلماء الذين تركوا إسهاماتهم في كافة المجالات الحضارية، ففي الأدب كان هناك ابن عبد ربه الشاعر الشهير صاحب كتاب "العقد الفريد"، وموسيقيا كان هنا زرياب لذي أضاف الكثير للموسيقى الأندلسية والأوروبية، فضلاً عن عباس بن فرناس العالم الموسوعي في المجالات المختلفة وصاحب أول محاولة طيران في العالم، والفقيه المالكي الكبير بقي بن مخلد.
ويذكر التاريخ للأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط، أنه أول الحكام المسلمين الذين تصدوا للإساءة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث أقدمت جماعة من المسيحيين في قرطبة على سب النبي والدين الإسلامي، وكان يقودهم في ذلك قس مسيحي يُسمي أيولوخيو، بعد أن كتاب كتابا أسماه "شهداء قرطبة" يتحدث فيه زورا عن اضطهاد المسيحيين في ظل الإمارة الأموية في الأندلس، وقد تصدى الأمير لهذه الفتنة فقبض على منظميها وأخمدها، وهذا لم يؤثر على سياسية التسامح التي انتهجها مع المسيحيين المسالمين.
توفى محمد بن عبد الرحمن في غرة شهر ربيع الأول 273هـ/ 886م في قرطبة ودفن بالقصر، وصلّى عليه ولده المنذر، وكان له ثلاثة وثلاثون ابنًا وإحدى وعشرون بنتًا.