أما آن لهذا الكلام أن ينتهي؟
كلام جولدا مائير عن الفلسطينيين، حين ادعت بأنه «لم يكن هناك ما يسمى بالفلسطينيين»، وكررته مرارًا فى المحافل الدولية، وسجلته فى مذكراتها الشخصية، كونها أول امرأة رئيسة وزراء فى إسرائيل، والعضو المؤسس للدولة العبرية، وتحول كلامها الخرافى إلى نشيد على ألسنة عتاة الحركة الصهيونية: ديفيد بن جوريون، ومناحيم بيجن، وإسحاق شامير، وشمعون بيريز، وشارون، ونتنياهو، وكأنه نشيد مقدس.
كلام جولدا الوهمى وجد طريقه إلى كتابات مثقفين غربيين، اعتقدوا دائمًا أنهم وحدهم المتحضرون، والسلسلة طويلة، بمن فيهم بعض المثقفين الذين وجدوا طريقهم إلى الثقافة العربية، وكرمتهم نخب ومراكز أبحاث، ووضعوا كلامهم فوق كلام الحقيقة.
كلام جولدا يقع الآن على الأرض فى صورة إبادة جماعية للفلسطينيين الذين لم ترهم، هؤلاء الأغيار فى عقل ووجدان الجماعة اليهودية، تلك الجماعة التي كانت محض مسألة أوروبية خالصة، وتحولت إلى مسألة عربية، ضمن سياق الاستعمار والاندفاع إلى احتلال الأقاليم العربية.
أما آن لهذا الكلام أن ينتهي؟
لن ينتهى إلا إذا شعرت أوروبا بوخز الضمير، وأعادت التاريخ إلى مساره الحقيقي، فلم يكن هناك أى مسألة يهودية فى الشرق، بل عاش اليهود بين العرب معززين مكرمين، وواجهوا معًا محاكم التفتيش فى إسبانيا، وهاجروا معا من شبه الجزيرة الإيبرية، إنما الحس الاستعمارى حوَّل الجماعة اليهودية إلى مسألة بوصفهم أغيارًا وشرقيين، ثم أضافوهم على الحضارة الغربية فى مرحلة تالية، وبعض الماكرين يقولون، أرادوا التخلص منهم، والتخلص من العرب فى حزمة واحدة، فالطرفان لا يمكن أن يلتقيا فى طريق، والحرب ستكون سجالا بينهم إلى الأبد حتى تستعيد أوروبا عافيتها التى سبقت الحربين العالميتين، ثم تستعيد معها حالة «الاستعمار» مرة أخرى.
استعادة مستحيلة، وزمن مفقود لن يستعاد، وعلى أوروبا ومثقفيها وجماعاتها المرابطة بيننا، أن تفهم أنه لا يمكن تكرار التاريخ، فتكراره مهزلة، والبديل الوحيد أمامها أن تدرك أن الإقليم العربى لا يمكن أن يستمر منطقة رخوة، منطقة صالحة لنصب خيام العابرين مرة أخرى، ولننظر إلى ما يجرى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، فنرى إسرائيل كقوة غربية مدججة بترسانة سلاح غربية متقدمة، ومعها ثلاث قوى نووية: أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وقوتان عسكريتان واقتصاديتان عظميان: إيطاليا وألمانيا، ومع ذلك لا تستطيع أن تظفر بنصر حاسم، ولولا وجود هذه القوى العظمى ما استمرت إسرائيل فى أرض المعركة شهرًا واحدًا.
الإبادة الجماعية والمحرقة اللتان ترتكبهما إسرائيل فى فلسطين لن تفضيا إلى أى نصر، بل ستؤدى إلى تدمير ما يسمى المشروع الحضارى الغربي، والغريب أن هيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، وصاحب فكرة الدولة اليهودية، كان يعلم بوجود الفلسطينيين الأصليين، وكان يرى فى الهجرة اليهودية إلى فلسطين نوعًا من التحديث، وإدخال هؤلاء المتخلفين فى طور الحضارة الغربية، وكان بعض أحفاد هيرتزل من الذين جاءوا بعده بعقود ينظرون إلى العرب الفلسطينيين الموجودين على هذه الأرض كخطر مستمر، لكنه سيتلاشى بقوة السلاح مع مرور الوقت.
الواقع وحده كذب جولدا، وكذب هؤلاء، فالفلسطينيون كانوا هناك، وسيكونون فى كل وقت، ولعل جولدا وغيرها، وبعض الساسة الغربيين، لم يفهموا الرسالة كما هى فى الواقع، بأن الحل هو الاعتراف بأن المسألة برمتها محض أكاذيب، ولن يجدوا لها حلا إلا إذا التقطوا أول الخيط الذى صاغته ذات مرة الحركة الوطنية الفلسطينية فى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وتلك قصة أخرى يجب أن تستعاد الآن.