Close ad

الهيكلة الفكرية والفكر الإيجابي!

18-9-2024 | 12:31

لا يمكن بحال من الأحوال أن تحدث عملية هيكلة للفكر ولا يمكن أن يكون ثم فكر إيجابي بناء إلا إذا قام على منهجية سليمة تقوم على مناهج منضبطة توظف توظيفًا صحيحًا لإحداث بناء نهضوي للفكر.

نعم كثيرة هي المناهج التي تستخدمها العلوم، سواء العلوم النظرية أو العلوم العملية، لكن الأهم من كثرة هذه المناهج هو كيفية استخدام هذه المناهج وتوظيفها التوظيف الصحيح للخروج بمنتوج فكري راق على كافة مستويات وأصعدة البحوث العلمية التي يقوم بإعدادها الباحثون؛ سواء في مرحلتي الماجستير أو الدكتوراه أو في المراحل التمهيدية التي تسبق التسجيل للدرجات العلمية والدبلومات العليا، أو حتى في مرحلة الليسانس، أو في مراحل التعليم الإلزامي، من أجل الوصول إلى فكر إيجابي يفيد واقعنا الذي نحياه.

ولم لا والجميع ينادي ويطالب بإحداث نهضة علمية وتصحيح مسار العمليات التعليمية في كل مراحل التعليم التي أصبح حالها مرثاة، إلا ما رحم ربي، القابضون على الجمار، لكن حتى تقال هذا العثرات وتحدث الغاية المرجوة ونجد ضالتنا المنشودة وتتحقق بغيتنا، فلابد من إعادة البناء، إعادة الهيكلة، - لن أتحدث عن هيكلة التعليم والمؤسسات التعليمية وخلافه، لأنني كتبت عن ذلك كثيرًا - راجعوا محرك جوجل إن شئتم - وإنما ما أتحدث عنه ها هنا هو هيكلة فكرية، فقد يبدو المصطلح غريبًا إلى حد ما، فهل لنا أن نعيد هيكلة الفكر، نعم نعيد هيكلة الفكر، فالفكر يعتمد على العقول، والعقول أعدل الأشياء قسمة بين الناس، ولكن التفاوت والاختلاف في توظيف هذه العقول، وهنا تأتي عملية الهيكلة، عن طريق إعادة تكوين هذه العقول التى ارتضت واعتادت على المدرسة التقليدية الكلاسيكية، أكتب ما يملى عليك، لا يا سادة لا نكتب ما يملى علينا، وإنما نكتب ما تمليه علينا عقولنا، فنحن من يمسك القلم بيديه، لا الأقلام هي التي تمسك بيدنا، نحن الذين نفكر ولا أحد يفكر لنا، دونما تقليل من خبرات الكبار، نحن لا نقلل من الكبار ومن فقههم وعلمهم وعملهم، لكن ما المانع أن نعاود قراءة هؤلاء بفكر معاصر مستنير يواكب العصر وتطوراته وحداثته، ونحن الآن نعيش في عالم يعج بالفكر الحداثي والتقدم التقني والسموات المفتوحة، والرقمنة، والثورة المعلوماتية الرهيبة، والميتافيرس، والذكاء الاصطناعي.

ومن ثم بات الأمر ملحًا أن يكون لنا دور فاعل في هذه الصحوة والثورة العالمية الجديدة والاستفادة من مستحقاتها في واقعنا المعاصر، فلا يعقل أن يكون العالم في واد ونحن في واد آخر، وإلا سيحدث ما لا تحمد عقباه، ونصاب بالعطب والركود الفكري، ومن ثم سنتخلف عن ركب المدنية الحديثة The Modern Civilization، ولن تحدث مواءمة ولا مواكبة.
 
 إذن لابد أن يكون لدينا انفتاح على هذه الثورة المعلوماتية، وإلا سيحدث لنا ما لا تحمد عقباه؛ سيندرس رسمنا وستنسحق هويتنا وستتحطم ذواتنا ولن يكون لنا كيان وجودي.

نعم ضرورة ملحة فرضتها ظروف العصر ومتغيراته، هذه الضرورة هي المواكبة والمعاصرة دونما إخلال بثوابتنا وبقيمنا، ودونما عبث بمقدراتنا وبهويتنا الفكرية التي إذا ما حدث تواصل مع الآخر ستزداد نموًا وازدهارًا.

نحن لا نرفض الآخر، وحداثتنا ومعاصرتنا تقتضي قبول الآخر أيا كان هويته وثقافته وتوجهه الفكري، ما دام يحترم فكري ولا يتجاوز مع معتقدي، نعم إذا أردنا صحوة وهيكلة فكرية حقيقية فلابد لنا أن ننتهج نهجًا فكريًا دقيقيًا يتحول بنا من مرحلة القص واللصق، إلى مرحلة الرأي الحر الواعي المستنير إعمالًا وتفعيلًا لظاهرة التأثير والتأثر، فالفكر سلسلة متصلة الحلقات، والعالم الآن بمثابة قرية صغيرة، تأثير وتأثُر دونما إفراط أو تفريط.

نعم كثيرة هي المناهج، فلدينا المناهج التجريبية التي تعتمد على الملاحظة والتجربة، والتي استخدمها علماؤنا قديمًا؛ فنجد رشيد الدين الصوري استخدم هذا المنهج؛ وهو عالم عربي من علماء النبات استخدم الملاحظة؛ ملاحظة تطور النبات في الأرض؛ عن طريق رسم النبتة في الأرض وهي برعم على سطح الأرض إلى أن تزهر.

كذلك لدينا المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي وتتبع الأحداث تاريخيًا فنتحول من التاريخانية أي الوقوف بالتاريخ عند فترة معينة وقولبته بقالب هذه الفترة، إلى التأريخية (صنع التاريخ)، كذلك لدينا المنهج التحليلي؛ والذي يستخدم في تحليل أفكار الفلاسفة، والوقوف على رأي كل فيلسوف على حدة؛ في دراسة أفكاره وماذا يريد أن يقدم لنا، وهل سنوظف هذا التحليل التوظيف الأمثل، متوخدين الحيطة والحذر، وكذلك متوخين الموضوعية وطرح النزعة الذاتية، وإلا فلن نصل في بحوثنا إلى النتائج المرجوة.

ثم لدينا المنهج المقارن، مقارنة بين أفكار الفلاسفة، بين أفكار العلماء، بين أفكار اتجاهين مختلفين، قد يربط بينهما خيط رقيق لا يراه الناظرون، لكن يراه الباحثون المنقبون، كالمقارنة بين اتجاه مشائي أرسطي ينتهج المنهج العقلاني، واتجاه إشراقي حدسي صوفي؛ سواء حدس عقلي أو حدس قلبي نوراني.

أو بين فكر مدارس المشرق الفلسفية، ومدارس المغرب الفلسفية، إذا ما حدث ذلك سنخرج من الركود الفكري والعطب الذهني الذي كاد أو أوشك أن يعصف بنا ويفقدنا هويتنا الفكرية والثقافية، إذا ما حدثت مثل هذه المقارنات سيصبح فكرنا حركيًا ديناميكًا مستمرًا يؤثر في الذي سيلحق بنا وسيجعله يواصل المسيرة، واقفًا على أرضية فولاذية لا يحيد ولا يميد عن الجادة والصواب.

ثم لدينا المنهج النقدي الذي هو روح الفكر والدينامو المولد للطاقة في حياتنا الفكرية والعلمية، منهج نقدي؛ أقول ولا أقول، منهج نقضي هدام، فنحن ننقد على أسس ودعائم وركائز، ننقد لا من أجل النقد أو من أجل الشو والاستعراض الإعلامي وإثبات الوجود إذا كان ذلك كذلك فوجودك ها هنا هو والعدم سواء، وسيتلاشى هذا الوجود الوهمي.

ننقد على أسس صحيحة عن طريق تقديم الدليل العقلي والمناقشة الموضوعية السليمة، عن طريق عرض الرأي والاستماع إلى الرأي الآخر، ننقد مقدمين الحجة والدليل الثابت ثبوتًا قطعيًا يقينيًا موثقًا توثيقًا دقيقًا.

أيضًا لابد أن يكون لدينا اطلاع جيد على الموضوعات المطروحة للمناقشة، والتي تخضع للنقد، حتى نستطيع تفنيد أفكارها تفنيدًا جيدًا من أجل الوصول إلى نقد بناء يستفيد منه الناقد ذاته والمنتقد، والذين سيقدم لهم هذا الفكر.

هذا المنهج النقدي إذا ما طبقناه تطبيقًا منضبطًا أكاد أجزم أن حالتنا الفكرية ومساراتنا الفكرية على كافة الأصعدة والمستويات والأنشطة السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والعلمية، والدينية على وجه التحديد، سيحدث ذلك صحوة ونهضة دومًا، ما كنا نحلم بها لأمتنا العربية والإسلامية، نهضة تعيدنا سيرتنا الأولى، خير أمة أخرجت للناس.

بل وستتحقق المعادلة التي كان يظن البعض أنها صعبة التحقق ورموزها عصية على الحل، ستتحقق التنمية الشاملة والمستدامة لبلدنا الحبيب مصر، ولأمتنا العربية والإسلامية التي أدعو الله أن تستفيق من سُباتها وتلملم شعثها، وتتحد أقطابها ويتوحد قادتها تحت شعار واحد، أمة واحدة تدين لرب واحد متخذة شعار رفعه الله تعالى من فوق سبع سموات، (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، فهل انتهجنا منهجًا نقديًا لا نقضيًا، منهجًا أساسه البناء لا الهدم.

لأننا في أمس الحاجة إلى نهضة فكرية وإلى فكر إيجابي يواكب العصر ومتغيراته دونما إفراط أو تفريط، فهل لبينا نداء الله تعالى أمة واحدة شعارها ورايتها الاتحاد قوة والتشرذم ضعف ووهن.

* أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

كلمات البحث
الأكثر قراءة