في الوقت الذي تقبع فيه المنطقة على صفيح ساخن، وتتحرك فوق حقل ألغام، ومواجهة شبح تحول المعارك في غزة والضفة إلى حرب إقليمية بنطاق أوسع، الذي بات أقرب من أي وقت مضى، تأتي زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى بغداد الأربعاء الماضي ذات دلالات ومؤشرات مهمة، وليست بعيدة عن السياق، فالتوقيت بالغ الحساسية، من زوايا عدة، منها ما يتعلق بالعراق نفسه، من مرحلة نفض غبار سنوات متلاحقة مضت من الأزمات، والمُضي قُدما في بناء الدولة واتخاذ مسار جديد من العلاقات المتوازنة مع محيطها ومع دول العالم، ولا شك في أن الحرب في غزة تمثل الاضطراب الأكبر في الشرق الأوسط، لذا تأتي زيارة بزشكيان وسط هذه الاضطرابات، مع توحد المواقف؛ حيث تطالب كل من طهران وبغداد بوقف إطلاق النار.
ولم يكن اختيار بزشكيان للعراق كأول بلد يزوره غريبا، فالعراق الجار الأقرب إلى إيران، وهناك تشابك كبير في العلاقات، بعضها يشجع على التقارب، والبعض الآخر مثير للقلق والمخاوف، خصوصًا مع إقدام الكيان المحتل على اغتيال فؤاد شكر القيادي البارز في حزب الله في لبنان، واغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران، وهو القائد السياسي لحركة حماس، مع استعداد إيران للرد على هذه الاعتداءات، وتأهب سفن حربية أمريكية للدفاع عن إسرائيل، وارتفاع منسوب التصعيد والتوتر في المنطقة، ومشاركة بعض الجماعات العراقية المسلحة في المواجهة مع إسرائيل، وشن بعض الهجمات على أهداف إسرائيلية وأمريكية، وتخوف عراقي بأن يصبح العراق ساحة حرب في حالة اندلاع صراع بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة.
من هنا تأتي أهمية الزيارة، التي ارتدى فيها الرئيس الإيراني الزي العربي، في إشارة لاعتزامه مواصلة تحسين العلاقات بين إيران والدول العربية، وكرست الزيارة رغبة البلدين في تعزيز العلاقات والتحالف، عبر توقيع سلسلة مذكرات تفاهم وتأكيد التنسيق الأمني، والموقف الموحد من الحرب في قطاع غزة، لذلك جرى توقيع 14 اتفاقية تعاون، والإعلان عن اعتزام البلدين مضاعفة التبادل التجاري بنسبة 100% حتى عام 2027، وهو طموح كبير، يتطلب خطوات كبيرة في تطويق عدد من القضايا، وأهمها ما يتعلق باحترام سيادة العراق، وعدم التدخل في شئونه الداخلية، وألا يكون ساحة لتصفية الحسابات أو المعارك، وعلى الجانب الآخر على الحكومة العراقية تأكيد سيطرتها على كل أراضيها، والتخلص من الوجود العسكري الأمريكي المتواجد في عدد من القواعد في الأنبار وكردستان، لأن وجود مثل هذه القواعد تبرر استمرار حمل السلاح لتنظيمات عراقية ترى في الوجود العسكري الأمريكي احتلالا غير مشروع، خاصة مع انتهاء مبررات وجوده، وتصويت البرلمان العراقي على ضرورة إنهائه، وقد توصل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى اتفاق بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي على مراحل تستغرق نحو عامين، وهذا الملف الشائك من أخطر ما يواجه العراق.
ومن قبل ذلك كانت خطوة التقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية، والسعي لاحتواء الأزمات الخليجية الإيرانية بالطرق الودية، الأمر الذي يسهم أيضا في استقرار العراق، بل أن يكون العراق جسرا لهذا التفاهم، بما يجنب المنطقة الكثير من المخاطر.
كما ينبغي أن تعمل حكومة كردستان العراق في إطار الدولة القومية، بما يحسن العلاقة ويمتص الأزمات، ويمنع التدخلات الخارجية، وهو ما أكده رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني بأن هذه المذكرات التي تم توقيعها ستمثل "خارطة عمل واعدة للمضي في تعزيز التعاون المشترك بين البلدين". وما أشار إليه بزشكيان بأنه بحث مع السوداني "مشاريع إستراتيجية على المدى البعيد ستؤدي إلى تعاون أكبر بين البلدين".
وهنا يلاحظ تطور جديد أو مضاف في علاقات التعاون بين بغداد وطهران، فهناك ملايين الأمتار المكعبة من الغاز تتجه من إيران إلى العراق لتشغيل محطات الطاقة، كما أن الدولتين عضوان في منظمة (أوبك) الدول المصدرة للنفط.
وفي سبتمبر من العام الماضي، تم إطلاق مشروع ربط "البصرة- الشلامجة" للسكك الحديدية.. وغيرها من أوجه التعاون.
المؤكد أن إيران المحاصرة بالعقوبات الأمريكية تطمح إلى أن يكون العراق بوابتها نحو علاقات عربية أوسع وأفضل، تمكنها من كسر الحصار، ويمكن للدول العربية أن تستفيد أيضا من إيران في إيجاد توازن إقليمي في ظل التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية المدعومة بشكل مباشر وغير مباشر من الإدارات الأمريكية المتتالية، على أن تدار هذه العلاقة بحكمة ومهارة تعزز الدور العربي، وتضيف إليه، ولا تكون على حسابه، ومن هنا تبدأ المسئولية العربية في إدارة أزماتها والتحديات المحيطة بها.