لم يجد الشاعر والكاتب الكبير صالح جودت وصفًا للفنانة والمطربة شادية الصاعدة بقوة الصاروخ إلى عالم الفن في عام 1952م سوى "عروسة المولد"، وذلك في الباب الذي كان يكتبه في مجلة "الكواكب" تحت عنوان "أهل الفن في المرآة".
موضوعات مقترحة
وفي عدد "الكواكب" الصادر في 23 ديسمبر 1952م، تحدث صالح جودت عن إعجابه بشادية، وتنبأ لها بالمستقبل الباهر الذي ينتظرها، وأنها ستتبوأ مكانة كبرى في عالم الفن السابع.
وكتب صالح جودت عن شادية في مقاله:
"تذكرني هذه الطفلة الحلوة دائماً بعروسة المولد، بما فيها من رقة وعذوبة وحلاوة وبراءة، وبما فيها من شيء يبعث على الحنو، فأنت اذ تتطلع إليها، تراها تبدو لك- كعروسة المولد تماماً- كأنها قطعة من الحلوى الشهية، التي يصعب عليك أن تأكلها، وتشعر نحوها بعاطفة من الحنان البالغ الذي يحملك على أن تقيم نفسك حارساً حفيظاً وأميناً عليها، وتحس أنك تريد أن تبقيها أمامك لتمتع بها روحك وعينيك، دون أن تدني منها يديك.
لست أدري متى ولا أين ولا كيف تسللت هذه الطفلة إلى دنيا الفن؟!.. ولكنها تسللت، ونجحت، ولمعت، دون أن يكون لأحد فضل عليها إلا مواهبها الناشئة تسللت، ونجحت، ولمعت.. في سرعة فائقة، واستطاعت أن تشق طريقها في دنيا السينما وهو طريق ملئ بالشوك والصخور، طالما تعثرت فيه خطى ودميت أقدام، دون أن يصيبها شيء مما يصيب الأخريات؛ لأنها - وهي طفلة- استطاعت أن تكتسب حب الجميع، واحترام الجميع، وعطف الجميع.. وفوق ذلك كله.. تقدير الجميع.
ولم تزل الطفلة تسير في خطوات ثابتة، وتقفز من نجاح إلى نجاح، حتى بلغت مبلغ الشباب وهي لا تزال نقية كالزهرة البيضاء، وأحسب أن هذا هو سر من أجمل أسرار نجاحها في حياتها الفنية.
وسر آخر .. هو أن شادية تسللت إلى دنيا السينما، في حقبة ارتفعت فيها أسعار نجماتنا- ولا سيما نجمات الغناء- إلى أرقام فلكية، مما دعا المنتجين إلى استجلاب الوجوه الجديدة من لبنان، فما أن ظهرت شادية، حتى هرع إليها الجميع؛ لأنها- بشبابها الغض ووجهها الدقيق وصوتها الحلو- قد سدت فراغاً كبيراً في دور يوجد في كثير من الأفلام، وليست هناك من تصلح له إلا "صباح"، ولعل "صباح" نفسها لم تعد تصلح لهذا الدور الآن، بعد أن أصبحت أماً، وبعدت عن طور الطفولة.
شيء واحد آخذه على شادية.. أو والدها القوام عليها، أنه يجهد صباها، ويستهلك مواهبها في أوان مبكر، فإنها لم تزل في أول الشباب، خضراء العود، ولكنها تقبل كل عرض يعرض عليها، وتشترك في رقم ضخم من الأفلام في كل موسم، حتى أصبحت قاسماً مشتركاً في أكثر الأفلام، ليت أباها يُدرك أنها في سنها المبكر وقوامها الضئيل، لا تحتمل كل هذا الجهد، فلا يحملها إياه، ولا يحملها فوقه أن تضني جسدها في غناء الليل بالمسارح الصيفية!، وليته يدرك أنها لا تزال أمامها سنوات طويلة في دنيا الفن، فاذا استهلكت جهدها ومواهبها جميعاً في هذه السن المبكرة، فماذا بقى لمستقبلها؟.
إن هذا الإفراط ضرب من التفريط في هذه الموهبة الحلوة.. وإني لأذكر مرة أنني سمعت منتجاً ومخرجاً يتجادلان في دور لا تصلح له إلا شادية، فزكيت الرأي، لولا أن قال المخرج:
"الحق معكم، ولكن شادية "اتحرقت" في هذا الموسم، أي أنها أصبحت على حد تعبير لاعبي السباق "حصان فافوريه" فرصته في السبق ضخمة، ولكن كسب اللاعبين عليه محدود!"
ليتها تدرك هذا لتدخر شيئاً للمستقبل... وليتها تعلم أن ممثلات السينما في هوليوود، يدركن هذه الحقيقة ادراكاً واعياً، فلا تقبل الواحدة منهن أن تشترك في أكثر من فيلمين كل عام.
وشادية بعد ذلك نجمة خفيفة.. خفيفة الظل.. خفيفة الروح، وتطغى عليها هذه الخفة حتى تتمثل في صوتها، فهو من اللون الخفيف الذي لا يتطلب جهداً كبيراً من المؤلف ولا من الملحن، وتمتد إلى طبيعة الأدوار التي خلقت لها، فقد خلقت للأدوار الخفيفة التي لا تتطلب عناء من واضع السيناريو ولا من المخرج.
إنها دُمية حلوة مرهفة، ولعل أول ما يستحق التكريم فيها، أنها وهي في رونق الشباب المزدهر، قد عصمت نفسها من الهنات التي تقع فيها من يكبرنها بسنوات وسنوات، وأنها، وهي لا تزال في سن التلمذة، تعيش بعقل لم يتوفر مثله لكثيرات من فناناتنا الكبيرات.
مرحى أيتها الدمية الطاهرة!
مقال صالح جودت عن شادية في مجلة الكواكب ديسمبر 1952م
ذكريات شادية مع عروس المولد
شادية وعروسة المولد
لازال الحديث مستمرًا عن "عروسة المولد"، فقد كان لتلك الدُمية التي استخدمها الشاعر والكاتب صالح جودت في وصف شادية، ذكرياتها الكثيرة لدى النجمة الكبيرة، فعلي نفس صفحات مجلة "الكواكب"، لكن أكتوبر في أكتوبر عام 1956م كتبت النجمة الكبيرة شادية مقالاً بمناسبة يوم المولد النبوي الشريف، روت فيها حكاياتها عن "عروسة المولد"، التي تعد أشهر مظاهر الاحتفال بهذا اليوم في مصر، وماذا تمثل هذه العروسة بالنسبة لها، حيث قالت فيه:
يحتفل العالم الإسلامي بالمولد النبوي الشريف كل عام، ويتذكر كيف تربى رسول الهداية ونشأ يتيما، وكلما جاء هذا الاحتفال قفزت إلى ذاكرتي أسعد الذكريات التي كانت أيام الطفولة.. وقد كانت أيام طفولتي كلها أيامًا سعيدة، وما زلت أذكر أني كنت استيقظ صباح يوم الاحتفال بذكرى مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجد حول فراشي هدايا المولد النبوي من حلوى وعرائس، وكان والدي يحملها إلى حجرتي ليلا ويضعها حول فراشي لأفاجأ بها في الصباح.
فقد كان الاحتفال بهذا اليوم منذ سنوات طويلة له طعم ومظاهر جميلة، حيث تمتد السرادقات بالغناء والتواشيح الدينية وقراءات من أشهر قارئي القرآن الكريم لإحياء ليلة مولد ـ نبيينا عليه السلام ـ .
واحتفال واحد من أيام الطفولة ما زلت أذكره حتى اليوم كنت في الثامنة من عمري، وقضت ظروف والدي في العمل أن يغادر القاهرة إلى بلدة بعيدة ليقضي فيها عدة شهور بعيدا عنا، وحان يوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واستيقظت في الصباح كعادتي وتلفت حول فراشي فلم أجد الحلوى المعتادة، ولم أجد عروسة المولد التي كنت عادة أجدها بجواري في تلك المناسبة، وبكيت يومها بكاء مرا.
أسرعت والدتي ترسل من يشتري لي عروسة وحلوى.. لكن الهدايا التي أتت بها والدتي في هذا اليوم لم تمنعني من البكاء؛ لأن عنصر المفاجأة الجميلة قد اختفى منها لأن والدي الحبيب كان غائبا أيضا .
ما زلت أذكر أيضا احتفال كل أسرة من عائلات الحي الذي كنا نسكنه وقد كان من الأحياء التي يتوارث أهلها التقاليد، وكان الحي الذي نسكنه يحتفل بالمولد النبوي الشريف احتفالاً مميزًا تعلق الزينات وتنصب شوادر بيع الحلوى بأنواعها المختلفة.
وتنظم الطرق الصوفية مواكب جميلة تعلوها رايات وأعلام، وتسير هذه المواكب فى شوارع الحى وهى تنشد أناشيد دينية فى غاية الروعة والسمو.
وكنا نحن أطفال الحي نسير حول هذه المواكب وخلفها ونحن نردد كلمات لا نفهم معناها ونحن في هذه السن الصغيرة.. إلا أن تنغيمها وإنشادها كان يجعلنا نردد كلماتها، وكل ما ندركه أنها كانت تذكرنا بتعاليم الله وطاعة أوامره.
الاعتزال في الليلة المحمدية
لم تكن تعلم شادية بالتأكيد وهي تكتب تلك السطور أنها ستكون "عروس المولد" أيضا فبعد ذلك بثلاثين عاما بالتمام والكمال، كان احتفالها بالليلة المحمدية عام 1986م هو مسك الختام لمسيرتها الفنية، حين شدت أغنيتها الدينية "خد بإيدي" من كلمات علية الجعار ولحن عبد المنعم البارودي، لتقرر بعدها الاعتزال نهائيًا عن المشهدين الموسيقي والفني.
شادية خلال مشاركتها في الليلة المحمدية عام 1986م وهو يوم اعتزالها