بعد اعتمادها على التعليم الرقمي والتوسع في نشر الأجهزة التقنية والتعلم عن بعد، كما تفعل غالبية دول العالم، تعود دولة "السويد" الأكثر تطورًا بين الدول الاسكندنافية، إلى التعليم التقليدي معتمدة على الوسائل التقليدية مثل الكتاب والسبورة، بعد أن اكتشفت تراجعًا في مستوى ومهارات القراءة والكتابة لدى طلابها، لتعود إلى الأساليب القديمة، والاعتماد على الكتب والدفاتر الورقية.
هذا خبر صحيح وحدث بالفعل، فقد أكدته وزيرة المدارس في السويد لوتا إيدهولم التي قالت: "لقد ساءت قدرة الأطفال على القراءة، وضعفت عندهم مهارات الكتابة، والأسباب كثيرة أهمها زيادة اعتمادهم على الأجهزة اللوحية وقضاء وقت طويل أمام الشاشات".
هذا التوجه يتعارض مع خطط غالبية دول العالم، التي ترى ضرورة الانتقال إلى الأساليب التكنولوجية الحديثة، وتطبيق وسائل المدارس الذكية باعتبارها سبيلا للنهضة بالمستوى التعليمي للطلاب.
المبررات لدى المسئولين في السويد تقول: إن وجود تشتت بصري وإشعاعات ضارة للطفل أثناء التصفح الإلكتروني، يضيع الانتباه والتركيز، وأن هناك تراجعًا في مستوى الكتابة لدى الأطفال لعدم الإقبال على القراءة، وأن هذا القرار عودة جزئية لتحسين مهارات الطفل.
بعيدًا عن قرار السويد، فإننا ندرك أن التوسع في استخدام للتكنولوجيا أدى إلى تراجع مهارة المشاركة المباشرة، وضعف مهارات الاستماع والاستقبال، حيث يفقد الطفل مهارة القراءة والكتابة والتحدث لتقتصر على عبارات وجمل قصيرة مشفرة ومدمجة، تؤثر سلبًا على تفاعله، ومن ثم على مشاركته.
هذا في مجال العلم والتعلم والتدريب، أما في المجال الإنساني والاجتماعي فيرى الكثير أن سلبيات العالم الرقمي تفوق إيجابياته، فقد سلبت شاشات وفضائيات العالم الافتراضي، البصمة الفطرية من الإنسان، لتتحول حياته إلى قائمة سريعة لا تنتهي من حسابات الأسعار ومؤشرات الفائدة والأرباح، على حساب المشاعر الوجدانية وأحاسيس الروح.
لنعترف أن الاعتماد الكلي على العالم الرقمي الافتراضي، تولد عنه الكثير من الإحباطات؛ أهمها حالة الاغتراب بيننا وبين ذواتنا، وبيننا وبين الآخرين، وبيننا وبين الطبيعة والكائنات الأخرى، وخاصة العلاقة مع الطبيعة، فالعلاقة الجيدة مع الطبيعة هي أهم عناصر السلامة النفسية والعقلية والوجدانية، فقد أثبت العلماء أن فقدان التفاعل والتواصل مع عناصر الطبيعة وغياب المساحات الخضراء، يولد المشاعر السلبية والتوتر، ويقلل من مستوى الثقة بالنفس، وكذلك من مستوى التركيز.
ولاشك أن العالم رقمي، والبيئة الافتراضية تأخذنا إلى المجهول، فهي تجمد الحواس بعد أن تآكل أفضل ما فينا، وهو الذي خلقه الله سبحانه وميزنا به عن سائر الكائنات، وهو "الحواس البشرية"، فقد أدى التركيز على الشاشات أمام العيون وقضاء الساعات الي حالة تيبس هذه الحواس وحبس وتجريف الفطرة الطبيعية.
ومنذ نصف قرن تقريبًا، درسنا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، أن الاتصال الشخصي، هو أفضل وأقوى أنواع الاتصال وأكثرها أثرًا، واليوم وبالرغم من اجتياح الشاشات والاتصال الإلكتروني لوسائل الاتصال والتواصل والعلم، فإن الاتصال الشخصي يظل هو الأقوى أثرًا والأعظم تأثيرًا.
لا نقول إن استبعاد التعليم الرقمي تمامًا هو الحل، ولكن من المفيد تكامل ودمج التعليم الرقمي بالتعليم بالتقليدي، ليصبح التعليم أكثر كفاءة وقدرة على مراعاة سلامة وصحة الأطفال والتلاميذ اليوم وغدًا.
وقبل العودة إلى السبورة، من الضروري العودة إلى الإعداد الجيد والفائق بالمعلم ليصبح مرجعًا أساسيًا ومثلًا أعلى، ليصبح بديلًا عن معلمو عصر العالم الافتراضي عبر "التيك توك" و"السناب شات" و"اليو تيوب".
وإذا كان الرئيس التنفيذي السابق لجوجل "إيريك شميت"، قد قال عبارته الشهيرة حول المعرفة: "اقرأ 20 كتابًا قبل أن تسأل سؤالًا واحدًا"، فلعل الواقع الحالي "الافتراضي" يقول: من يقرأ صفحة واحدة، بإمكانه أن يوجه على أثرها 100 سؤال.
[email protected]